ثقافة وفن

جدل البوكر … العلاقة الملتبسة ما بين الرواية والتاريخ

عماد البليك

أحرص سنوياً على متابعة نتائج الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة باسم “البوكر العربية”، حيث يمكن أن تعطي ملمحاً عن الروايات العربية الجديدة وأبرز تجلياتها، برغم أن المحصلة النهائية تظل انحيازية لتقديرات لجان التحكيم، فهناك ملاحظات متكررة على بعض الأمور التي تدافع عنها لجنة الأمناء ولجان التحكيم ببسالة، من قضايا التحييز الجغرافي والإثني والنظرة لمفهوم الأدب، وهل هناك أدب قومي عربي؟ هل ما تزال اللغة العربية رابطة فعلية تتجاوز النظرات الأثنية والضيقة للأوطان؟!

برغم أن البروفيسور ياسر سليمان رئيس مجلس الأمناء، أجاب على سؤالي في المؤتمر الصحفي للجائزة هذا الأسبوع الذي شاركت فيه وكان عبر تقنية زوم، وهو سؤال حول ورود أسماء مكررة في القوائم ومن ذات الدول بشكل معاد سنوياً، وقال إنهم كلجنة أمناء لا يتدخلون في قرارات اللجان، ثم ذهب بعدها إلى أن الجائزة تظل عربية وللرواية العربية وعندما يترجم العمل الفائز لن يقال إنه ينتمي لبلد معين إنما هو رواية عربية.

برغم ذلك الجواب الافتراضي، وهو ما يجب أن يحدث بالفعل، إذ أن وظيفة الأدب التقريب بين الشعوب وصناعة السياق الإنساني وتحييد الحدود الجغرافية والعرقية والوطنية التقليدية، إلا أن تكرار الأسماء أو التحيز لبلدان وغيرها من هذه الظواهر هي أمور تحدث شئنا أم أبينا، لأن طابع الإنسان عامة أنه له دوائره في الانتقاء والتحيزات والرؤية، وقد بدا جلياً في أحد الأعوام أن دخول مُحكِّم سوداني جاء باثنين من الكُتاَّب السودانيين في القائمة الطويلة، وكان لوجود محكم جزائري العام الماضي أثراً في بروز الرواية الجزائرية ومن ثم فوز جزائري، ويبدو أن وجود يمني في هذه السنة كان له أثر في دخول يمني للقوائم وهي حالة نادرة لبلدان الهامش العربي، كاليمن وسلطنة عُمان والسودان وموريتانيا التي لم نرها من قبل في أي قائمة برغم أننا رأينا كاتباً موريتانيا يفوز بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية التي ينظمها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وهو محمد عبد اللطيف بروايته “كتاب الردة”، حدث ذلك في أول دورة للجائزة العام الماضي.

تظل طريقة عمل اللجان وعملية الفرز لعدد كبير من الروايات يفوق المائة وقد كان أكثر من ذلك في السابق، عملية ليست بالهينة، وهذا يعني أن النتائج تختلف باختلاف اللجان حتماً، وقد أشار رئيس لجنة التحكيم هذه السنة الشاعر شوقي بزيع إلى أنهم حاروا بين ثلاثين رواية لكي يشكلوا القائمة الطويلة من 16 رواية، واضطروا في نهاية الأمر أن يُودّعوا نصف هذا العدد وداعَ محب، بعد ان قرأوا بعض الروايات لمرتين لكي يختاروا النصوص الأفضل.

هذا الزعم الذي قد يكون صحيحاً، يقود إلى أن عملية الذائقة الفنية والأدبية تظل مسألة معقدة، ففوز رواية ذات طابع مستقبلي أقرب لأدب الخيال العلمي في أحد السنوات لإبراهيم نصر الله قد لا يعني فوزها في عام آخر في دورة سيطرت فيها الواقعية الاجتماعية والسياسية عندما فاز التونسي شكري المبخوت بـ “الطلياني”، وهكذا تتحدث الصورة عن توقعات غالبا ما تحكمها طبيعة اللجنة ومن هم يقومون على أمرها، بالذات يلعب رأي رئيس اللجنة دورا محوريا في تشكيل هواها. وهذا يكشف أن الروايات الفائزة من عام لآخر تتفاوت في الموضوعات والتقنية الكتابية والمتعة وغيرها من المسائل.

لكن برغم هذه المفارقات أو التفارقات فإن “البوكر العربية” لها ملامح عامة يمكن أن يذهب إليها المراقب، بغض النظر عن كون هذه الملامح متفق عليها أو هي “مانفستو” داخلي غير معلن في أجواف المثقفين العرب غالبا في حكم نظرهم لماهية الفن الروائي وضرورته في الواقع العربي، أيضا الحيثيات التي تعمل عليها الرواية في ظل المجتمعات العربية التي لا تزال أسرى التشابك التاريخي والسياسي والاجتماعي، فبعض الروايات التي تفوز في “مان بوكر الغربية” أو البوكر الإنجليزية لا يمكن لها أن تُحظى بالفوز لو أنها روايات عربية والعكس صحيح. إذ نحن هنا أمام سياق المجتمعات والأبنية الثقافية.

في كل دورة تحاول لجنة التحكيم أن تقدم بيانا دفاعيا عن حيثيات الاختيار، ويبقى هذا البيان برغم دوره الدفاعي بوصلة لفهم الطريقة التي فكرت بها اللجنة وهي تختار النصوص، مع وضعنا في الاعتبار لعوامل لا يمكن إغفالها في كل الأحوال فيما يتعلق بالشللية في الواقع الثقافي العربي، والتحيزات سابقة الذكر، وهي أمور لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال، مهما أردنا أن نكون موضوعيين، ولنعطيها على الأقل نسبة مئوية لا تقل عن عشرة بالمائة، تظهر في أسماء أصدقاء لأعضاء اللجان أو أناس من بلدانهم كما سبقت الإشارة، ففوز ربعي المدهون مثلا في أحد السنوات بروايته “مصائر” شفعت له مسألة وجود أصدقاء كعبده وازن وسيد محمود في اللجنة، كما أن وجود الشاعر اللبناني عباس بيضون في القوائم هذه السنة، مثلا كان يجاور وجوده رئيس اللجنة بزيع، وهكذا.. وقد لا تكون هذه الملاحظات صحيحة لكنها تقع في حكم الصحيح بالنظر إلى المواضعات القائمة إلى أن يثبت العكس.

قلنا إن البيان الدفاعي للجنة يعكس تصورها للنصوص الروائية الجديرة بالنظر لنقل في خلال عام كامل، أو من خلال نظرة أعضاء اللجنة الذين ليس هم بالضرورة على قلب رجل واحد، ماذا نعني بالرواية أو ما هو هذا الفن؟ وهنا سوف تظهر المفارقة الخطيرة التي تضعنا أم صورة مركبة، أن البعض لا يقترب حتى من مفهوم الرواية، في حين يكون البعض الآخر دقيقا جدا في تحورات هذا الفن ودلالته اللغوية والاجتماعية وكافة التصورات المحاطة به، بالتحديد في الإطار العربي.

وضح جليا أن هيمنة السياسة وإرباكات العالم العربي هي المقود الأساسي لفكرة اللجان عادة عن ماهية النص الروائي، وهذا يصور لنا الواقع الأدبي العام الذي لم يتحرر من النظر إلى الأدب بوصفه تضاد للسياسة أو انعكاسا لها، حيث ليس ثمة فرق، وفي بيان السنة، فقد أشار بزيع بشكل واضح إلى قضية التاريخ والسياسة برغم أنه في إجابة على سؤال لي حول هذا “الخلل” – كما أسميته – حاول أن يسوق بيانا دفاعيا مضادا بأن التاريخ الذي يعنيه هو ما يتبقى من التاريخ بعد أن تذهب الرواية الرسمية، أي التاريخ الصافي، وفي كل الأحوال نحن أمام صورة التاريخ.

من خلال السرد للروايات التي وصلت للقائمة القصيرة سوف يبدو جليا أن الطابع الحكائي السياسي والواقعي هو المسيطر، حيث الالتصاق باللحظة الراهنة عربيا، وهو أمر مفارق لقول اللجنة بأنها أبعدت أي روايات لها صلة بالكورونا سواء من حيث العنوان أو المضمون، بحجة أن “الكتابة لا تأتي تعنتاً” – كما قال نصاً رئيس اللجنة – وهي قاعدة ليست صحيحة بالمطلق، فأحيانا تولد نصوص داخل الأزمات وتكون جديرة بالاعتبار، هنا يبدو أن القاعدة هي إجراء ذهني مسبق يقول بأن على كاتب الرواية أن ينتظر ليرى نتائج الواقع وهذه نظرية كلاسيكية معروفة في الأدب ليست بهذا التماسك الكبير.

من السهل إطلاق الأحكام والنظريات حول النصوص وحول الروايات، مثل عبارات: حفر عميق، فساد السلطة، “ما تبقى من التاريخ عندما تسقط منه الرواية”، “الوعي التاريخي الباطني العميق”، وهي استعارات قالت بها اللجنة، لكن كل ذلك يظل دفاعا بَعدياً للأسئلة الموجهة أكثر من كونها مسائل أساسية في بنية الاختيار الذي تم مسبقاً وانتهى، وقد ذكر بزيع بأن ثمة شعوراً عاماً من خلال قراءة النصوص التي بحسب البيان ربما لم تأتِ بجديد من حيث الموضوعات، إلا أنها تدل على “التاريخ يكرر نفسه”، وهذا ليس سليماً أن التاريخ لا يكرر نفسه في الأدب القوي والمستقبلي والاستشرافي، بينما يحدث ذلك استجابة للواقع السياسي وردة الفعل للمقارنات بين بنية الأحداث التي تقع ما بين بلد وآخر أو بين مرحلة تاريخية وأخرى، كما ذهب بزيع إلى أن ما ورد في رواية “الملف 42” من كارثة السموم في المغرب، يذكره بما حدث في بلده بيروت من أزمة انفجار المرفأ.

سيبدو للقارئ أن بنية الوعي التاريخي التي تقول اللجنة إنها تتحرر منها هي قائمة بالفعل بل أكثر التصاقا بالسياسي والراهن، كما حدث في دورة الدكتور العراقي عبد الله إبراهيم وهو يختار “فرانكشتاين في بغداد” التي كانت تعبيرا مباشرا عن مجازات العراق ما بعد الغزو الأمريكي، حتى لو أنه جاء بتعبير “الفصاحة الجديد”، وتبقى مسألة اطلاق المصطلحات موضوعا سهلا في حين أن الصعوبة في إمكانية إثبات أن هذا المصطلح ينطبق على الرواية المعينة، فالنقد دائما – تحديدا العربي – يرى ما سيراه ولا غير، ويسقط ما يدور بوعيه من تصور على النصوص.

الخلاصات في أن الرواية العربية من خلال هذه الصور، عبر ما تفرزه البوكر أو لجانها، لم تتخلص بعد من أثر الارتباط باللحظة الراهنة، الأثر السياسي والاجتماعي، وهو أثر لحد كبير ساهمت فيه بنية الرواية العربية التقليدية عند نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وغيرهم من رواد الرواية العربية، كذلك يبدو جليا قضية التأثر بالموضوعات التقليدية، حيث – ليس من جديد في الموضوعات – وهو ما يعني ضيق الخيال وكونه أصبح مخنوقا بالاستجابة للسياسي، وسنلاحظ أن أنساق العلاقات المدركة سلفا في البنى الاجتماعية أو الإشكاليات المجتمعية لا زال هو المسيطر، كما في “دفاتر الوراق” لجلال برجس من القائمة القصيرة هذه السنة، أو في “وشم الطائر” حيث الاحتفاء بأدب الأقليات، وهي مسألة أصبحت استهلاكية في الأدب العربي تثير الشفقة على الكاتب أكثر مما تدفع إلى التعاطف مع الضحايا الذين يتكلم باسمهم.

هناك نقطة لابد من الإشارة لها أخيرا وهي ما اسميه “التفسير الحكائي للرواية” وهي قضية خطيرة وتنسف بنية النصوص الرواية وفكرة الرواية في حد ذاتها، وهي للأسف ما زالت قائمة بوضوح في التصور العام لأدب الرواية وفي الجوائز، وقد بدا جليا في تلخيص اللجنة هذه السنة للروايات التي وصلت للقائمة القصيرة، حيث انتصرت الحكاية وأزاحت النص الروائي المفترض، إذ نحن أمام حكايات مروية بلغة شاعرية أو غيرها، لها أن تمزج الخرافة وتعبر عن المجتمعات، دون أن يكون المؤلف قد تحرر من أناه “السلالية”، كما اسماها بزيع، حيث أثر السلالة والمجتمع الطاغي، إنها حمولة ثقيلة قد نجد لها الاعتذار المثقل والموازي في أزمة شعوب العرب وعدم قدرتهم على تجاوز التقليد إلى الحداثة والابتكار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق