
كلام في التنوير (١)
جيهان خليفة
يقول إيمانويل كانط ” تجاسر على استخدام عقلك أيها الإنسان تجاسر على كسر قيودك والتحرر من الأحكام المسبقة ذات الطبيعة الطائفية أو المذهبية أو الغيبية تجاسر على التحرر من كاهنك أو شيخك أو حتى مما رباك عليه أمك وأبيك إذا لزم الأمر تجاسر لأول مرة فى حياتك على أن تفكر بنفسك دون وصاية أحد عليك ” هذا ما قاله كانط الشخصية المركزية الأولى فى الفلسفة الحديثة وأستاذ أساتذة التنوير ليس فى أوروبا فقط بل فى تاريخ البشرية ، كلام كانط رسالة لنا جميعا فهل نحن قادرين حقا على استخدام عقلنا في مجتمعات الخوف ، الجهل ، الفقر ، الاستبداد ، وهل يجدى التنوير فى مجتمع يسيطر عليه كل هذا ؟ هل العقل العربي قابل ومستعد للتنوير؟ بل أين ذهب المشروع النهضوي العربي ولماذا فشلت محاولاته؟ وما التجديد؟ وكيف يتم؟ وبمن؟ وهل العقل الجمعي العربي سيتقبل التجديد أو لنكون أكثر وضوحا التأويل الجديد للنص الديني هل سيتقبله العقل الشعبوي للجماهير التي استوطن بداخلها جمود النص وحرفيته منذ عقود حتى أصبح كالبصمة الوراثية التي تورث للأجيال جينيا إنه الصعب بل أمر أشبه بالمستحيل فلا تنوير دون البدء بالدين قدس الأقداس بداخل كل واحد فينا فلكي يمر فلك التنوير لابد من أن يسير داخل هذا النفق المظلم أولا ليعبده كي يصلح من جديد لزراعة أنوار فكره تلك هي المشكلة.
بداية أعلم جيدا إن مجرد تعريف التنوير يمثل صدمة إذا وقع على أذهان الكثيرين ممن صمت آذانهم منذ عقود عن أي صوت مغاير لصوت المنبر وعمامته المدججة بسلاح حرفية النص ولكن أراه قد آن الأوان للدخول للمعبد وتكسير أصنامه بمعول التنوير الذى يعنى فى مجمل تعريفاته بأنه الاستخدام العام لعقل الإنسان فى جميع القضايا بمعنى أكثر وضوح شجاعة استخدام العقل ولو كان ضد الدين وضد النص والدعوة إلى تجاوز العقائد الغيبية والإيمان بقدرة الإنسان الذاتية على الفهم التحليل والتشريع والدعوة إلى الدولة العلمانية تجاوز النص الديني أو إهماله أو تفسيره بعيدا عن سياقه .
أسامة بن لادن: الإسلام يرى بوجود صراع الثقافات
فى كتابه صراع الأصوليات “التطرف المسيحي – التطرف الإسلامي – والحداثة الأوربية ” لهاينريش شيفر- ترجمة الدكتور صلاح هلال – يقول “قال أسامة بن لادن في شهر أكتوبر من عام 2001 في حوار أجراه تيسير علواني إن فرضية صراع الثقافات صحيحة بلا شك فالقرآن يرى بوجود هذا الصراع وفكرة السلام العالمي ليست أكثر من أسطورة غربية ” تلك الرؤية لوضع العالم تجمع بن لادن مع كل من بات روبرتسون وجيري فالويل وغيرهما من أعضاء النظام الأصولي اللاهوتي المحافظ في أمريكا ، فيرى شيفر أن الأصوليين يحتاجون صراع بين الثقافات والأديان لأنهم يحتاجون إلى فصل الحدود وترسيم خطوط المواجهة ذلك ما جعل الكتابات الأصولية في الغرب منذ التسعينيات من القرن الماضي في أعقاب انهيار الشيوعية يطغى عليها النظر للإسلام على أنه بطبيعته عدو للمسيحية.
الأصولية تستغل صراع الثقافات لإضفاء شرعية على صراعهم
الأصوليون يستغلون صراع الثقافات ليضفوا شرعية على صراعهم على اعتبار أنه صراع الجميع وهم الممثلون الشرعيون للمدنيات التي يعيشون بها وهذا يعبر عن حلم أصولي قديم هو تحريك مجتمعات بأسرها لتحقيق أهداف الأصوليين الخاصة.
إذا ما تأملنا كلام شيفر ألم نجده وقد تحقق في منطقتنا العربية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي فقد خرجت لنا الأصولية بكل بشاعتها في مصر ، سوريا ، تونس ، ليبيا ، ومن قبل العراق ، ليس فقط مختلقة صراع مع الأخر بل صراع مع بعضها البعض وللأسف كانت مدججة برؤوس ملايين البشر المغيبين بأفيون العقيدة وكانت سبب رئيسي في فشل هذه الثورات التي اشتعلت ولكنها لم تجد للأسف العقول المؤهلة لاستيعابها فلو كانت هذه الجماهير قد نالها نصيب من التنوير لكنا في حال غير الحال ولكنه الجهل أو فلنكن أكثر إنصافا تغيب الوعى المتعمد من قبل حلفى ” الكرسي – والعمامة ” المحصنين بسلاحي المدفع والنص، لذلك أتفق مع كانط حين رأى أن طريق الثورة ليس الطريق السليم للإصلاح فهو يرى بأهمية تغيير اتجاه العقول من الاعتماد على الغير إلى الاستقلال الذاتي وذلك أمر لا ينفع فيه تحول فجائي مثلما يحدث في الثورات وإنما يحتاج إلى تربية عقلية ونقدية.
الحرية أوكسجين التنوير
ويضع كانط هنا شرط الحرية بوصفه مطلب ضروري لنشأة التنوير واستمراره وهذا ما لم يتوفر عندنا فالحرية أوكسجين التنوير ، وهذا أول مأزق يحاصر أي محاولة للتنوير العربي من المحيط إلى الخليج فحريتنا جميعا مسلوبة سجينة قمقم الاستبداد العتيد ولكن بالقياس لما حدث فى فرنسا وسائر أوروبا منذ القرن السابع عشر والثامن عشر العصور الذهبية للتنوير كانت أوروبا باستثناء بريطانيا وهولندا تقريبا ديكتاتوريات مليئة بالصراعات الطائفية والمذهبية فكان المسيحي الكاثوليكي يكفر المسيحي البروتستانتي والعكس دارت حروب بل مجازر كان يديرها رهبان وقساوسة وراح ضحيتها مئات بل آلاف من الأرواح البريئة كل هذا السجال الدموي دفع وبقوة مجموعة من فلاسفة عصر الأنوار منهم دينيس ديدرو، فولتير ،مونتسكيو ، البارون ، وقبلهم سيمون ريشار ، وكان من أعظم ما فعل ديدرو بالذات عمله ” الأنسكلوبيديا” أو الموسوعات كل ذلك من أجل إخضاع النص الديني لسلطة العقل واستماتوا من أجل عقلنة أوروبا فلا وجود لمقدس إلا للعقل بالطبع لم يكن الطريق مفروش بالورود بل كلهم عانوا الآمرين والاضطهاد فقد ناصبهم رجال الدين العداء بل إن معظمهم كان يكتب دون أن يدون اسمه على مؤلفه أو يكتب باسم مستعار ولعل ما فعله الفيلسوف الفرنسي سيمون ريشار وكما ذكر الرائع هاشم صالح فى كتابه الانسداد التاريخي حيث جمع مؤلفاته وذهب الى مكان قريب وقام بإحراقها بنفسه بعد أن علم أن البوليس الملكي آتى للقبض عليه المراد من هذا السرد أن نعى جميعا أن أوروبا الحداثة قد دفعت الثمن من أجل ما هي عليه الآن فهل نحن مستعدون للتضحية ولكن قبل التفكير بدفع الثمن والتضحية لابد أن نتساءل من سيضحى أين هم فلاسفة التنوير لدينا نحن نحتاج لخلق حركة تنويرية شاملة تعمل معا لصياغة مشروعها الذى ستنزل به للشارع ، وما أدراك ما الشارع العربي ولكنى أرى أن مفتاح عقل الجماهير في يد السلطة لذلك هذا المشروع لابد أن تحميه السلطة وتدعمه بكل الوسائل أرى أنها لو فعلت ذلك لكان أفضل لها من محاولتها الفاشلة في الحرب على الإرهاب . لنقف هنا ونكمل في مقالنا القادم حيث سنعود للوراء لنرى كيف وصلت لنا الحداثة، وأين ذهب مشروع الأفغاني ومحمد عبده؟
مصادر
• تمارا دلوكج (افتتاحات فلسفة التنوير- دينيس ديدرو) ترجمة الدكتور عماد نبيل – دار الفارابي –بيروت
• هاينريش شيفر (صراع الأصوليات التطرف المسيحي –التطرف الإسلامي والحداثة الأوربية) – ترجمة الدكتور صلاح هلال
• تعريف التنوير – ويكيبيديا
• هاشم صالح (الانسداد التاريخي – لماذا فشل مشروع التنوير العربي)