ثقافة وفن

طعم السكّر – كيف غيّرت العبودية طعم حياتنا

أحمد فتحي سليمان

كم معلقة من السكّر تضع في كوب الشاي؟

أنصحك أن تقلّل من السكّر قدر الإمكان؛ فبجانب مضارّه الصحيّة التي جعلت البعض يسمّونه السمّ الأبيض؛ كذلك كانت العبودية هي التي جعلت استعماله على هذه الدرجة ممن الشيوع.

للرقّ تاريخٌ موغلٌ في القدم؛ فقد عرفته كافّة حضارات العالم وكانت أسبابه الأساسية هي الأسر في الحروب والولادة لرقيق والوفاء بدينٍ أو كعقابٍ على جرم.

ولهذا فقد كان وجود الرقّ مقبولًا في الفلسفة والأديان على حدٍّ سواء، وإن كانت له اشتراطاتٌ وعليه تحفّظات؛ فنجد أفلاطون وأرسطو يقولون بالتفرقة بين اليوناني الذي هو بطبيعته حرٌّ عاقلٌ وبين الآخرين من الأمم البربريّة الذين يليق بهم الرقّ لافتقارهم للعقل!

ومع ظهور الإمبراطورية الرومانية اتّخذ الرقّ صورًا وحشية؛ حيث شاع استعمال الرقيق كأدواتٍ للمتع الجنسيّة والحسيّة الشاذة، وانتشرت حلقات المصارعة التي أُلقي فيها الرقيق ليصارعوا بعضهم أو الحيوانات المفترسة حتى الموت لتسلية المشاهدين، تفشّى قتل العبيد للمتعة أو لأسباب واهية حتى أصبح وسيلةً للتفاخر.

أما اليهود فقد فرّقوا بدورهم بين اليهوديّ الذي لا يسترقه يهوديٌّ آخر إلّا وفاءً لدينٍ  ولمدّة ستّ سنوات على الاكثر يعامله فيها بالحسنى كخادم، وإن وقع يهوديٌّ في عبودية الأغيار وجب على عشيرته فدائه وتحريره، أما غير اليهودي فلا يجوز تحريره ويبقى في أسر العبودية طيلة حياته.

وعندما جاءت المسيحية لم يختلف الوضع كثيرًا؛ فنجد القدّيس بطرس يوصي العبيد أن يخضعوا لسادتهم حتى وإن أساءوا معاملتهم؛ ذلك أنّ الرؤية المسيحيّة كانت قائمة على القدرية؛ حيث أن كلّ وضعٍ في الحياة هو ترتيبٌ من الله الذي رتّب طبقات البشر (لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلّا  من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله حتى أنّ من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيدانون ) ونجد القديس أوغسطين ومن بعده القديس توما الاكويني يردّدون مقالات فلاسفة اليونان أنّ الله خصّ  بعض الناس بالرقّ  وآخرين بالحرية لأن الإنسانيّة جسدٌ كبيرٌ وكلّ  فردٍ هو عضوٌ منه له عمله ووظيفته وعليه أن يقوم بعمله بإخلاصٍ  حتى لا يختلّ الجسد كله، والفارق أن الأفلاطونية برّرت ذلك بالطبيعة والمسيحية بأنها إرادة  الله مع الأمر بحسن معاملة الرقيق و وعدتهم الثواب الأخروي ولم تعارض الكنيسة الرقّ  إلّا  في حالة استرقاق الأسرى المسيحيين، بل وشجّعت الأوربيين على استرقاق الأفارقة والآسيويين تحت راية التبشير، وكانت الأراضي البابوية والكنسية والأديرة يقوم على الخدمة بها الرقيق.

وبنهاية عصر الإمبراطورية الرومانية كان النظام الاقطاعيّ هو السائد، واستمرّ الرقيق في زراعة الأرض  من القرن العاشر حتى الخامس عشر الميلاديّ؛ حيث بدأ الرقيق في أوروبا في الانقراض لأسبابٍ عديدةٍ على رأسها رغبة الملوك في إضعاف النبلاء الإقطاعيين والحروب الضروس التي تتابعت منذ القرن الثاني عشر وأدّت لتحرير الرقيق لتجنيدهم على نطاقٍ واسع، كما أنقصت الأوبئة والمجاعات التي اجتاحت أوروبا عدد الارقّاء كما تطوّر النظام الإقطاعيّ فتحولت العلاقة بين النبلاء والمزارعين من علاقة عبودية تامة الى عبودية نسبية؛ فكان المزارع يكلَّف بزراعة قطعة من الارض يعيش فيها هو وأبناؤه مقابل التزامه بدفع إيجارٍ سنويٍّ للمالك ولكن لا يملك أن يترك هذه الارض حتى يموت ولذا سمّوا برقيق الأرض، ثم تحوّل المزارعون إلى مستأجرين واكتسبوا حق ترك الارض.

ولكن لا شيء في التاريخ يقارَن بتجارة العبيد عبر الأطلسيّ منذ القرن الخامس عشر.

في العصور الوسطى؛ كان السكّر من الكماليات النادرة في أوروبا وكان يستورَد من الشرق الأوسط بأسعار باهظة ويستخدَم باعتدال في أطباق الأثرياء، ولكن بعد اكتشاف أمريكا اتضحت إمكانيات إقامة مزارع للقصب كبرى بها، وكانت الكميّات التي تصل منها لأوروبا تُقابَل بطلب أكبر منها، وبدأ عامّة الأوروبيين يعرفون طعم الحلوى والمشروبات المُحلّاة ويعتادون عليها ويطلبون المزيد.

كان الاستثمار في مزارع قصب السكر واعدًا ولكن كانت تقابله مشكلة هامّة وهي أنّ زراعة القصب واستخراج السكر منه تتطلب عمالةً كثيفةً كانت تلك الأراضي الشاسعة تفتقر اليها بعد إبادة سكّانها الأصليين أو تهجيرهم ولم تكن العمالة الأوروبية مناسبة للعمل في المزارع الاستوائية المشبّعة بالملاريا بالإضافة إلى أن طلبهم أجور مرتفعة ومساكن ملائمة كان يُقلّل من الأرباح فكان الحل الأمثل هو استرقاق الأفارقة.

وفي ٣/٨/١٦١٩ حملت سفينة هولنديّة أوّل “شُحنة” من العبيد الأفارقة إلى أمريكا لتبدأ رحلة الرِّق المخيفة إلى الأميركيتين، وتأسست شركات لنقل العبيد الذين كانوا يُختطَفون من غرب أفريقيا إلى مراكز تجميعهم الأوروبية ثم إلى الأمريكيتين ليعملوا في مزارعها خاصّة مزارع قصب السكر الذي كان يُعاقب العبد الذي يمصّه باقتلاع أسنانه.

وفي قرنٍ  واحدٍ تقريبًا جُلِبَ قرابة عشرة ملايين أفريقي  إلى الأمريكيتين كعبيد عمل وقضى ٧٠٪” منهم في مزارع السكّر طيلة حياتهم القصيرة البائسة ومات ملايين آخرين يستعصي إحصائهم في الحروب التي شُنَّت من أجل الاسترقاق على يد الأوروبيين وحلفائهم الأفارقة الذين بادلوا الرقيق بالملابس والسلع الأوروبية  فنشأت عداوة تاريخية بين أبناء القارة جعلتهم ينخرطون في حروب ضروس لقرونٍ قادمة، ومات ملايين في الرحلات المُهلِكة التي كان العبيد يُقيّدون فيها بباطن السفن عبر الأطلسيّ فيموت معظمهم ويُلقَون في البحر قبل وصولهم لشواطئ أمريكا من أجل أن يستمتع الأوربيون بالحلوى ويتمكّنوا من تحلية الشاي.

كانت الأرباح الضخمة التي حققها المستثمرون في السكّر مغرية، ولم تكن تجارة الرقيق خاضعةً لسيطرة أيّ دولة أو حكومة وإنما نظمّتها ومولتها السوق الحرّة وفق قوانين العرض والطلب فأُنشِئَت شركاتٌ لتجارة الرقيق تداولت أسهمها في بورصات أمستردام ولندن وباريس واشتراها الأوروبيون من الطبقة الوسطى الذين يبحثون عن استثمارٍ جيد، وبالاعتماد على هذه الأموال اشترت الشركات السفن واستأجرت البحّارة والجنود المرتزقة لبيع العبيد في أمريكا ومبادلتهم بالسكّر والمنتجات الأخرى كالبن والكاكاو والقطن والتبغ ومن ثمّ العودة بها إلى أوروبا لبيعها لسكانها الذين اكتسبوا عاداتٍ غذائيةٍ جديدةٍ ثم الذهاب بها إلى أفريقيا لبدء جولة أخرى ليستمرّ نزيف القارّة السمراء الذي لا يظهر في دفاتر الأرباح.

ولم تكن الأرباح الهائلة فقط هي من تُسكِن الضمائر وتعمي الأعين عن بشاعة هذه التجارة اللاإنسانية بل كانت العنصرية أيضًا عاملًا  مهمًّا في رواجها؛ فحتى الكنيسة وجدت في العهد القديم ما يبرّر استرقاق الأفارقة أن نوحًا لعن ابنه حام وذريّته ودعا ربّه أن يجعله وأولاده عبيدًا لأخويه كما جاء في سفر التكوين (فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخواه خارجًا – فأخذ سام و يافث الرداء ووضعاه على أكتفاهما ومشيا الى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى  الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما- فلما استيقظ نوحٌ من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير – فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته- وقال مباركٌ  الربّ إله سام وليكن كنعان عبدًا لهم- ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدًا لهم) وبينما ذهب اليهود إلى أنّ هذه القصة تبرّر إخضاعهم للكنعانيين فسرت أنها حجّة على مشروعية عبودية الأفارقة حيث أنهم  من نسل حام (بلا دليل على ذلك من التوراة أو غيرها).

وكذلك المفكّرون الاوربيّون كان معظمهم مؤيّدين لاسترقاق الأفارقة؛ فنجد مونتسكيو يقول في إطار دفاعه عن حق الأوربيين في استرقاقهم (لا يمكن للمرء أن يتصوّر أنّ الله وهو ذو الحكمة السامية أن يضع روحًا طيّبة في مثل هذا الجسم الحالك السواد).

ولم تغيّر دولة القانون التي بدأت في الظهور في أوضاع الرقيق إيجابيًّا؛ ففي ولايات فرجينيا وكارولينيا الأمريكيّة وُضِعَت قوانين العبيد التي منعتهم من التعلّم أو الزواج أو الخروج من المزارع إلاَّ بأذن السيّد الذي يملك التصرّف في عبيده بالبيع والرهن والإيجار ويستحلّ زوجته وبناته ولا عقاب عليه إن قتله أو شوّهه.

وكان نجاح مزارع السكّر الاقتصادي فاتحًا لشهية الدول الأوروبية في الاستعمار والحصول على جزءٍ من الكعكة المُلطّخَة بالدماء وتكرار نموذج السكّر الاقتصادي الناجح في مجالات أخرى كالقطن والمطّاط.

وبعد مؤتمر برلين ١٨٨٤م الذى أقرّت فيه القوى الأوروبية أن الادعاءات الاستعمارية في أفريقيا لا تكون إلّا  بالاحتلال الفعليّ انطلق سباقٌ محمومٌ للاستيلاء على أكبر قدرٍ ممكنٍ  من أراضي القارّة السمراء بأي ثمن،  وسرعان ما انخفضت المساحة المستقلّة بأفريقيا من ٩٥٪” في ١٨٨٥م إلى ٨٪” في ١٩١٠م وتكالبت تلك القوى الاستعمارية على “حَلْب” الموارد الطبيعية للقارّة بينما منعت تمامًا كافّة محاولات التحديث وتوطين الصناعات الحديثة لتبقى هذه البلاد أسيرة الفقر بينما تلقّى التعليم الغربي فئةٌ محدودةٌ من أبنائها ليكونوا حلفاء المستعمر لاحقًا، وكان نزوح الأوربيين الكبير في القرن الثامن عشر إلى المستعمرات عاصفة وباءٍ على سكّانها الذين تعرّضوا للإبادة بالأوبئة التي حملها الأوروبيون وبأسلحتهم الناريّة ونشرهم الكحوليات والسُخرة.

وفي عام ١٨٦٧ أسّي ليوبولد الثاني ملك بلجيكا التي لم تحصل على أيّ مستعمراتٍ من قبل “منظّمةً خيريةً” لاستكشاف وسط أفريقيا وتحسين حياة الأفارقة  المساكين وبناء المساكن والمشافي لهم ولكن هذه المنظّمة التي سيطرت بموافقة القوى الأوروبية على ٢,٣ مليون كيلو مترٍ في حوض الكونغو بما يعادل خمسةً وسبعين ضعف مساحة بلجيكا دون سؤال أيٍّ  من سكّان هذا الإقليم البالغ عددهم عشرين مليون إنسانًا على أقلّ  تقدير تحوّلت فيهل المنطقة لمشروعٍ تجاريٍّ بغرض تحقيق الثروة لجلالة الملك، وبذلك امتلأ حوض الكونغو بمزارع المطاط التي أدارها مسئولون بلجيكيون استغلّوا بلا رحمةٍ السكان المحليين وأرغموهم على زراعة المطاط وجمعه وتسليمه لمُمثّلي المنظّمة الخيرية التي تصدّره لأوروبا لسدّ حاجات صناعة الإطارات المتسارعة بدلًا  من المحاصيل الغذائية، وكانت القرية التي تفشل في تقديم الحصّة المطلوبة منها تعاقَب بوحشيةٍ فتُقطع أيدي رجالها ونسائها ويُقتل الشيوخ والمرضى العاجزون عن جمع المطّاط وأحيانًا كان تُذبَح القرية بكاملها لأدنى بادرة تمرّدٍ  على الاستعباد، وخلال الفترة ما بين ١٨٨٥م و ١٩٠٨م  قُتِل ما لا يقلّ عن ستّة ملايين شخصٍ على يد “المنظّمة الخيرية” ومرتزقتها.

وفي النهاية بدأت حمّى الاستعباد في الانحسار وكما بدأت بتضافُر عوامل ثقافية واقتصادية متعددّة كانت نهايتها لذات الاسباب.

وكانت الانتقادات الأولى على أسسٍ  إنسانية ودينية؛ ففي مطلع القرن الثامن عشر بدأت الحملة ضد العبودية في أوروبا على يد فولتير ورينال وغيرهم من مفكري التنوير ولكن إن كانت للاعتبارات الانسانية والاخلاقية دورٌ في حركات تحرير الرقيق فالعوامل والمبرّرات الاقتصادية كانت أقوى؛ فقد حمل آدم سميث في كتابه الاشهر “ثروة الامم” على الرقّ  وجادل أن العامل الحرّ أفضل من العبد في الإنتاج لأنّ القهر يحجب نشاط الانسان وذكاءه وإبداعه، وكذلك جويو وروسي الذين جادلوا أن الرقّ  عطّل المواهب وأضرّ بالنظام الاقتصاديّ؛ حيث أن العبد لا يستهلك إلّا  النذر القليل ولا يوجد له دافعٌ لتعظيم إنتاجه لأنّه لا يستفيد منه بحالٍ  فتتعطّل عجلة الاقتصاد القائمة على التبادل الحرّ.

وجدت هذه الأفكار صدًى في إنجلترا التي قادت حركة منع العبودية حول العالم حيث تضافرت جهود الإصلاحيين من الساسة والبرلمانيين مع المثقفين والقضاة والكنيسة وخاصّةً جماعات الكويكرز الإنجيلية التي دعمت إنهاء العبودية.

ويُعدّ التغيير في المصالح الاقتصادية هو العامل الأهمّ في ذلك الحراك؛ فعندما أصبحت أمريكا مستقلة تراجعت مستعمرات السكّر في بريطانيا مثل جامايكا وبربادوس، ومع ظهور الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر لم تعد بريطانيا بحاجةٍ إلى السلع القائمة على الرقيق بل كانت التجارة والعمل الحرّ أكثر مُلاءمةً وتحقيقًا للازدهار. أصبح القطن -بدلاً من السكّر- المنتجَ الرئيسيَّ للاقتصاد البريطاني، وأصبحت المُدُن الإنجليزية مثل مانشستر مراكز صناعية ذات أهميّةٍ عالمية.

كما كانت ثورات العبيد الكبرى في هايتي وبربادوس وجامايكا توضّح أن كلفة الاحتفاظ بالرق أصبحت عاليةً جدًا؛ فحتى أصحاب المزارع بالمستعمرات البريطانية أصبحوا على استعدادٍ لإلغاء العبودية بدلًا من المخاطرة بالدخول في حروبٍ واسعةٍ للإبقاء عليه.

وفى عام ١٧٧٢م أرسى القاضي البريطاني اللورد مانسفيلد مبدأً قانونيًّا تاريخيًّا بحكمه في قضية “سومرست” حيث لم يتعرّض العبيد الأفارقة للبيع والشراء في لندن نفسها، ولكن أسيادهم جلبوهم من أماكن أخرى. اعتُبِرَ العبيد الأفارقة أجانب، وبالتالي غير مؤهلين ليكونوا مواطنين إنجليز، ولكن عندما فرّ العبد جيمس سومرست من سيده وقبل أن يقبض عليه ويضعه على سفينة متجهة إلى جاميكا ليباع كعبد كان قد “عُمّد” في أثناء وجوده في لندن وأصبح مسيحيًا؛ فحضر ثلاثة آباءٍ للكنيسة أمام محكمة مجلس الملك الخاصة وطلبوا من اللورد مانسفيلد كبير القضاة أن يقضي فيما إذا كان سومرست يخضع للقانون العام الإنجليزي فيكون مخطوفًا ويجب تحريره أم لا.

وكان حكم مانسفيلد الصادر في ٢٢ يونيو ١٧٧٢ ما يلي: “ إنّ وضع العبودية لذو طبيعة لا يمكن تبريرها على أيّ  أسس، أخلاقيةٍ كانت أم سياسية، إنما وفقًا للقانون الوضعي فحسب، والذي يحافظ على صلاحيته لفترة طويلة بعد انتفاء أسباب، ومناسبات، والزمن الذي بموجبه تأسست العبودية. إنها تبلغ درجةً من الكراهة، إذ لا شيء يقبل تأييدها، ما عدا القانون الوضعي. بناءً عليه، وبغضّ  النظر عن الإزعاج الذي سينجم عن القرار، لا يمكنني القول إن هذه الحالة مسموح بها أو معتمّدة وفقًا للقانون في إنجلترا؛ وبالتالي، يجب إطلاق سراح الرجل الأسود”

مثّلت قضية سومرست جزءًا جوهريًا من القانون العام المتعلّق بالعبودية في العالم الناطق باللغة الإنجليزية وأسهمت في انطلاق حركة إلغاء العبودية.

وتلا تلك القضية قضيةٌ أخرى رفعها العبد السابق جوزيف ناست الذي هرب من سيده ورفع قضيةً مطالبًا بحريّته أمام القضاء الأسكتلندي الذي أجابه وأعلن عدم اعتراف القانون الأسكتلندي بالعبودية وأنه يمكن للعبيد أن يطلبوا حماية القضاء لمغادرة أسيادهم أو لمنع تسفيرهم من اسكتلندا أو إعادتهم إلى العبودية في المستعمرات.

وفي المقابل كان تجمّع المصالح الهادف للإبقاء على العبودية ينشط ولكن رغم تضامن تجار السكّر والوكلاء الاستعماريين ومزارعي وتجار الهند الغربية في تحالفٍ سياسيٍّ إلّا  أنّ خسارة حلفائهم في الانتخابات البرلمانية البريطانية أدّت الى ضياع فرصتهم.

وتدريجيًا بدأت بريطانيا في إلغاء تجارة العبيد ومشاركة سفنها فيها، وقام ساسة إنجلترا بحملةٍ من أجل إلغاء الرقّ  في المستعمرات البريطانية ثم دوليًا حتى أقرّت هذا المنع في مؤتمر فيينا ١٨١٥م وفي مؤتمر لندن ١٨٣١م حيث اعتبرت تجارة الرقيق من أعمال القرصنة وشنّت حربًا على ممارسيها حتى ألغيت العبودية رسميا في ١٨٣٤م  وإن كان استمرّ العبيد المحرّرون في خدمة أسيادهم تحت مسمّى متدربين لفترة.

أمّا في أمريكا التي كان بها أكبر عددٍ من العبيد في العالم (قرابة ١٢ مليونًا مقابل قرابة ٣٠٠ ألفٍ  في المستعمرات البريطانية) فكان إلغاء الرقّ  أكثر صعوبة.

عندما استقلّت الولايات المتحدة الأمريكيّة واجه اتحاد الولايات إشكالية الرقّ بحلٍّ  بدا وقتها عمليًا للحفاظ على وحدة الاتحاد؛ حيث أقرّ بالرق من حيث المبدأ ومنح كلّ ولايةٍ الحق في الإبقاء عليه أو إلغائه بداخلها؛ الأمر الذي أدّى لوجود ولاياتٍ  حرّةٍ في الشمال ذي الاقتصاد الصناعي وولاياتٍ استرقاقيةٍ في الجنوب القائم على الزراعة، ولكن عندما انضمت ولاياتٌ جديدةٌ إلى الاتحاد أصرّ الشماليون على أن تكون ولاياتٍ  حرةً لأنهم أرادوا القضاء على الرقّ  تدريجيًا بينما اتهمهم ساسة الجنوب أنهم يرغبون في إضعاف اقتصادهم الزراعيّ بإضعاف الرقّ  ليتمكنوا من الانفراد بحكم الاتحاد.

عندما انتُخِبَ ابراهام لينكولن المؤيّد لإلغاء الرق على مرشح الولايات الجنوبية ١٨٦٠م بدأت الولايات الجنوبية في التمرّد والانسحاب من الاتحاد وألّفت اتحادًا جديدًا باسم الولايات المتعاهدة الامريكية بعاصمةٍ جديدةٍ في ريتشموند، وانتُخِبَ رئيسًا لها جيفرسون ديفيس، وسرعان ما اشتعلت الحرب الأهلية الامريكية.

العبودية

وفي بدايتها تقدم لينكولن بطلب للكونجرس بمنح الارقّاء الذين يتطوّعون للقتال مع الشمال ضدّ الجنوب حريّتهم وتوقّع لينكولن القضاء على التمرّد بسهولةٍ لقدرات الشمال الصناعية وثرائه، ولكن إنجلترا وفرنسا بادرتا بالاعتراف باستقلال الجنوب وأمدّوه بالسلاح والعتاد مقابل القطن، وبنهاية الحرب بعد اربع سنواتٍ داميةٍ وسقوط ملايين القتلى أعلن لينكولن في الأول من يناير ١٨٦٣م تحرير العبيد في الولايات الجنوبية الاسترقاقية التي أعلنت الاستقلال بينما منح مُلّاك الولايات التي لم تنفصل عن الاتحاد تعويضاتٍ عن عبيدهم.

وأدّى إلغاء العبودية في الولايات المتحدة الامريكية إلى تحريك القضيّة بقوة على المستوى الدولي، وفي عام ١٨٩٠م صدرت الإتفاقيّة العامّة لمؤتمر بروكسل ونصّت على أن الأطراف اتفقت على وضع نهايةٍ لتجارة العبيد في البرّ والبحر، وأصدر السلطان العثماني فرمانًا بتحرير العبيد في ١٨٨٩م، وفي عام ١٩٢٤م أنشأت عصبة الأمم مفوضيّةً مؤقتةً للرقّ، وكلّفتها بمتابعة قضية إلغاء الرقّ، ووُضِعَ قانونٌ دوليٌّ لحظر الرقّ وتجارة الرقيق، وفي ٢٥سبتمبر١٩٢٦م  وقّعت الدول الأعضاء في عصبة الأمم على اتفاقية حظر الرقّ، وجاءت هذه الاتفاقية تتويجًا لنضال البشرية من أجل إلغاء العبودية وتجارة الرقيق، وأُلزِمَت الدول الموقِّعة بإلغاء جميع أشكال العبودية والرق والسخرة، ووضع قوانين تمنع هذه الممارسات.

واليوم يمكننا القول أن الرق قد انتهي “رسميًا” من العالم رغم استمرار التجارة الملعونة في الخفاء، وبقيت لنا دروس التاريخ..

مثّلت تجارة الرقيق عبر الأطلسي نموذجًا للرأسمالية المتوحّشة حيث ما يهمّ هو الربح، والربح فقط، ولم تجد الأفكار الإنسانية السامية والمطالبات بالرحمة آذانًا صاغيةً إلّا. عندما تغيّرت طبيعة الاقتصاد واختلف النموذج الاقتصادي المربح، وغيرّت تلك التجارة من طبيعة مجتمعاتٍ عديدة، وأفرزت اوضاعًا اجتماعيةً لم تكن لتقوم بدونها واستمرّت بعد نهاية عصره بعقودٍ طويلة، وربما الدرس الذي يمكن أن نتعلّمه هو أن ندقّق النظر عمّا إن كان ما يحقّق مصالحنا ويشبع رغباتنا أمرًا مقبولًا أخلاقيًّا أم لا، وما هو الثمن الذي يُدفَعُ في سبيله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق