سياسة

سفينة بَوْح

تمنَّينا ...!

هيثم الفضل

من حق بعضهم أن يحزن على ما مس المنظومة العدلية السودانية العريقة في مهنيتها عبر إعادة الهيكلة والتطهير الذي قامت وما زالت تقوم به لجنة إزالة التمكين، وذلك من باب أن المنظومة العدلية تحصل على قداستها ومكانتها المجتمعية والرسمية من اضطلاعها على (صناعة) العدالة وصون الحقوق ودعم سُبل أداء الواجبات، والذين حزنوا على ذلك غير ملومين إذا افترضنا (عدم إلمامهم) بما ألم بهذا القطاع من (جُرأة) في التحطيم والتسييس والاستغلال فيما هو (مُضاد) لأهدافهُ السامية، إذ تبدَّلت فيه مفاهيم العدالة إلى (مظالم)، و(تحوَّرت) فيه حماية المظلوم إلى نصرة للظالمين، ولم تعُد الحقوق والواجبات في دواوين العدالة محل احتفاء بقدر ما أصبحت (شذوذاً) يُقابل من يُطالب به بكل أنواع القمع والإذلال والترهيب.

إن أهم الميزات في سوءات النظام الإنقاذي البائد، قدراته الاستثنائية في الجرأة على ما لم يجرأ عليه أحدٌ قبلهم في مجال التغوُّل على المؤسسات مهما بلغت قداستها الدستورية والمعنوية، ومواهب قياداته (الفذة) في عدم الحياء والاستخفاف بالمبادئ الأساسية المُتَّفق عليها إنسانياً في مجال استقلال بعض المؤسسات الرسمية، والتي لاعتبارات كثيرة تفوق صلاحياتها عبر مقامها المعنوي في أغلب البلدان صلاحيات رأس الدولة ونافذيها، ففي الكثير من الأنظمة الديكتاتورية الشمولية في بلدانٍ كثيرة من بينها السودان في عهودهِ الديكتاتورية بما فيها نكبة مايو على سبيل المثال، لم يكُن يخطر على بال منظوماتها الاستبدادية على مستوى الهيكل والشخوص أن تكون المؤسسة العدلية واحدة من (أدوات) البطش والتنكيل، الداعمة للسياسات الاستبدادية ومشروعات الفساد ومخطَّطات تصفية المُعارضين السياسيين، ونفس ما سبق شرحهُ يسري على المؤسسة العسكرية الرسمية، إذ لم نسمع على مدى التاريخ أن نظاماً استبداديا مهما بلغت (جُرأته) قام بإنشاء وتمويل جيوش موازية لجيشهِ الوطني، تنافسه في إحكام السيطرة على الأمن الإستراتيجي وحماية العرض والأرض ومُقدَّرات الوطن.

كنا نتمَّنى أن تجد لجنة إزالة التمكين المؤسسة العدلية في بلادنا قد (أنجاها) رب العالمين من جرأة الإنقاذ بحق قداستها واضطلاعها بمعالجة حقوق وواجبات العباد، لكن وللأسف كانت قد طالتها يد التمكين السياسي وأصبحت شأنها شأن الكثير من مؤسسات الدولة معقلاً لطغيان نافذي الإنقاذ عبر تمرير وتقنين تجاوزاتهم للدستور والقانون، وعبر استعمالها كأداة (إرهاب) ناقمة على المظلومين وفقاً لمعايير الانتماءات السياسية التي عارضت نظامهم الفاشي على مدى سنوات جدباء عُزلت فيها المنظومة العدلية عن نُصرة الحق وإبطال الباطل، وأُغلقت دونها أبواب المؤسسات و(قصور) النافذين المُترفين، وما تقارير المراجع العام وإفاداته المُتكرِّرة عن امتناع الكثير من المؤسسات والمنظمات والمشاريع الرسمية عن إبراز مستنداتها للمراجعة القانونية، إلا دليلٌ صادق على ما وصل إليه أمر العدل والقانون في بلادنا إبان تلك الحقبة العصيبة من تاريخ بلادنا الحبيبة، تمنَّينا أن نجد المؤسسة العدلية (مُحصَّنة) بقداسة دورها وواجباتها من (فايروس) الفساد والتمكين السياسي ولكن ما كل ما يتمنى يدركهُ.

ليست مُطلقة وبلا كابِح …!

بعد اللغط الكبير الذي أحدثته المهزلة الدرامية التي أنجزها (طعناً في حقوق المرأة السودانية ) المدعو عبد السلام فضيل، الممثِّل النمطي الذي لم يستطع عبر سنوات استفاد منها من الدعم المادي واللوجستي من نظام الإنقاذ البائد باعتباره بوقاً للتسويق لشعاراته المهرجانية أن يجد لنفسه منهجاً إبداعياً مُستقلاً ينتشلهُ من مستنقع الإسفاف وغياب الرؤية التي تستهدف استنارة المجتمع، كان لا بد من وقفة متأمِّلة ليس في لُب الموضوع  المُتعلِّق باتفاقية سيداو، لأنها لا تحتاج إلى كثير لغط ولا نقاش حول عدم مخالفتها للشرائع والعقائد والعادات، ذلك لأنها ببساطة وفي مسودة صفحاتها الأولى تُعلن أن لكل الموقِّعين عليها الحق في التحفظ على أي من بنودها، وفي ذلك ما يُشير (بصراحةٍ) صارخة إلى (عدم إمكانية تعارضها) مع كل ما يخطر وما لا يخطر على بال أحد في باب الشرائع والعقائد والعادات والأعراف، ولكن دعونا نتحدَّث عن من يستنكرون الهجمة الشرسة التي تعرَّض لها مدعي الإبداع عبد السلام  فضيل من باب أن المناخ الديموقراطي يوفِّر للجميع بدون فرز إمكانية التعبير عن رأيه بشتى السُبل والطرق من باب أن حرية التعبير (مُطلقة) وبلا قيود ولا كوابح.

طبعاً لن يتناطح عنزان في كون حرية التعبير واحدة من أساسيات المبدأ الديموقراطي، بل واحدة من أهم شروط العمل به، لكن ذلك لا يعني أن حرية التعبير مفتوحة بلا حدود، إذا يحدُها في نهاية الأمر المساس بحريات وحقوق الآخرين، فإن كان الوجه الشكلي للنقد الذي عالجت به الدراما المذكورة تلك الاتفاقية  يقف عند حد رفضها كمبدأ قانوني ستلتزم الدولة السودانية بتطبيقه، لما استرسل المستهجنون في هجومهم واستنكارهم، وذلك لاعتبارات متعلِّقة بإتاحة المبدأ الديموقراطي للكافة إمكانية رفض ونقد التوجُّهات الحكومية بما في ذلك ما تصدرهُ من قوانين وما تصادق عليه من اتفاقيات، لكن دعونا ننظر إلى (غياهب ومجاهل) ما تم من انتقاد بواسطة تلك المهزلة الدرامية السمجة والمُتعلِقة بفكرة (الترويج) والدعوة إلى محاربة نضالات المرأة السودانية في معارك حصولها على حقوقها المشروعة ومحاولاتها المُستميتة للخروج من مستنقع الاستغلال والمهانة والتشويه النفسي والجسدي، فضلاً عن منعها (حُرياتها) الأساسية في مستوطنة السيطرة الذكورية التي لم يُقرها الإسلام قُرآناً وسُنة، أليس في مضمون ما أقدم عليه المذكور (مساسٌ) لا تُخطئه عين حصيف بحقوق النساء وحرياتهن ؟، هنا وعند هذا الحد يمكننا أن نُعلن (انتفاء منطق حُرية التعبير) حال ما مسَّ هذا التعبير أياً كان أسلوبه وأدواته ضرراً نفسياً أو مادياً بطرفٍ آخر.

بنفس المنطق الذي يمكن من خلاله استغلال حرية التعبير كمبدأ ديموقراطي، لماذا لا نمنع الدولة والمجتمع عن محاربة الأفلام الإباحية والإعلان عن المُخدرات والممنوعات بكافة أشكالها؟  من وجهة نظري الشخصية لا يختلف من يروِّج للدعارة والفسق والفساد، عن مَنْ (يُروِّج) لحرمان المرأة السودانية التي أسهمت بروحها وفكرها وطاقاتها في بناء هذا الوطن منذ أمدٍ سحيق من حقوقها المشروعة في الدين والدنيا، ومَنْ يُناهض محاولاتها الدائبة في النهوض من وهدتها، ومَنْ يُساوِّم (بالخداع والافتراء والتجهيل المُتعمَّد) لابتزاز حقوقها التي توفِّرها اتفاقية سيداو (بعد التحفُّظ على بعض ما لا يناسبنا فيها).

فلنتجاوز هذا الصراع الوهمي …!

لو صح فعلاً أن بعض شبابنا من لجان المقاومة الذين مهروا ثورة ديسمبر المجيدة بأرواحهم ودمائهم وطاقاتهم طلباً للحرية والعدالة والسلام، قد اختلط عليهم أمر التفريق بين النظام البائد وسِماتهُ وخصائصهُ (المحسوبة) على الإسلام وهو بريءٌ منها، وبين الإسلام الحق الذي يعتنقهُ معظم السودانيين منذ الأزل بوسطيةٍ وصدقٍ وإخلاص لله  تعالى والوطن دون انتماء لحزبٍ سياسي ولا تجمع ولا حِلف، يحترمون ويوادون ويتقبَّلون من يخالفونهم العقيدة ويشاركونهم الانتماء إلى هذه الأرض الطيبة، إذا صح هذا الخلط وتأكَّد وجب علينا التوقف ولو لبُرهةٍ من الزمان لنتبيَّن صحة اتجاهات مسيرة هذه الثورة.

فمن الناحية المنهجية نتفَّهم أن ما مِن أحدٍ من قيادات هذه الثورة أو منسوبي حكومتها أعلن ظاهراً أو باطناً محاربتهُ لدين الإسلام، إلا إذا فهم المتطرِّفون من إتاحة حُرية الاعتقاد للآخرين فيه حربٌ على الإسلام وهذا ما  لا يجوز اعتماده لا على مستوى تعاليم الكتاب ولا على مستوى سُنة وسيرة النبي الكريم (ص) فيما نُقل عن تعاملاته مع اليهود والنصارى والمجوس في عهد دعوته الأولى بمكة، ثم في عهد دولته الفتية في المدينة، إذ كانت كلها لا تخرج عن إطار التعايُش عبر مبدأي (لكم دينكم ولي دين، وأدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).

أما من الناحية الشكلية فإن الجنوح بلا وعي وتحت تأثير الحماس الثوري لدى بعض الشباب، نحو محاولة إضفاء حالة التوجُس والشك وربما الكراهية نحو كل ما يشير إلى إسلامية المجتمع السوداني الراسخة في تاريخه قبل نشأة حركة الإخوان المسلمين، وذلك عبر مُلاحقة المظاهر والتجمُعات الدينية الإسلامية، والدعوة إلى نبذها وإهانة  روادها ومُنتسبيها وإشانة سمعتهم و نعتهم بأنهم (كيزان)، فذلك عاجلاً أم آجلاً سيؤدي إلى خرابٍ ودمارٍ كبير في البنية الاجتماعية الصامدة على التعاون والتعايش حتى الآن، لأن حِدة الاستقطاب المجتمعي ما بين (فكرتين وهميتين) إحداهما تنسب الإسلام  وروادهُ المُلتزمين إلى نظام سياسي كان يعتلي فساداً بشعارات الإسلام وهو بعيدٌ عن مضامينها، وبين ثورةٍ يدَّعي مناهضوها  على المستوى السياسي بأن روادها ومُناصريها (كُفاراً) يحاربون الإسلام، ستكون نهايتها الحتمية التطرُّف والجنوح إلى العُنف وأخذ الحقوق عنوةً عوضاً عن أخذها بالحوار والتفاوض والقانون.

من وجهة نظري الشخصية أن هذا الاستقطاب الذي يحدث الآن ويختصر خلافاتنا السياسية تحت طائلة الكُفر والإسلام، لن يستفيد منهُ سوى ذات الجماعات التي انتفض الشعب ليزيحها عن صدارة مواردهُ وحقوقهُ ومُكتسباتهُ وكرامته المُهدرة، أولئك الذين كان الإسلام  بالنسبة إليهم مجرَّد آلة يستخدمونها (للتعالي) على المُحتَّجين من ظلمهم وفسادهم وابتعادهم عن الدين القيِّم، على المُهتمين بأمر مسارات الثورة والاتجاهات السلوكية لبعض أفراد لجان المقاومة أن يُعملوا الفكر لإيجاد معالجات لما يحدث في أوساط المجتمع من إثارة واستعداء لأهلنا البسطاء الذين وجدناهم منذ أن وعينا يصلون ويصومون ويحتفون بعقيدتهم بلا ضررِ ولا ضرار، وعلى من يقف خلف إدارة علاقات لجان المقاومة مع المجتمع أن يُلفت نظرهم إلى أن ردود أفعالهم حول المُتديَّنين واتهامهم بالكوزنة إنما يرفع من أسهم الكيزان وينتخبهُم إلى مصاف الصادقين في إيمانهم وإسلامهم وربما يُبرِّئهُم من ما خاضوا فيه من فسادٍ وتجاوزات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق