ثقافة وفن

تاريخ الله

الألوهة من "آنو" الكنعاني إلى "الله" جلَّ جلاله

جيهان خليفة

“البحث في وجودية الله مسار فلسفي عميق جدا، دارت مناقشاته وتجلياته داخل تلافيف العقل البشرى، فمنذ فكرة الله الساقطة في ذواتنا جميعا، ونحن ندرك روح الألوهة دون أن نلامس تجلياتها “.

للأسف البحث في نشأة الألوهة ليس بالأمر السهل نظرا لقلة الدراسات والأبحاث التي تناولت هذا الجانب في ذلك يقول جورجي كنعاني : ” في العربية لم يظهر بحث يعالج جوانب التطور التاريخي أو على الأقل بعض الجوانب لمفهوم العالي “ايل–الله ” فمنذ العهود الإسلامية الأولى وصلنا عدد ضخم من المؤلفات ، المحشوة بدورها بعدد ضخم من الأدلة والبراهين على وجود الله ،  أو على أحاديته ، أو عن التوحيد ، وعلم العقائد ، والتنزيه ، والكرامات ، عن صفات الله ، وتكلموا في الذات الإلهية ، وفي الوحدانية  ، وتركزت أبحاثهم على فكرة الله الواجب الوجود وفي صفاته الأزلية،  لكن واحد منهم لم يشر إلى تاريخ الله العالي “ايل –الله ” كمفهوم أو كبنية وجل ما ذكر في “ايل” كبنية يتمثل في قول بن منظور في معجمه “ايل ” من أسماء الله عز وجل عبراني أو سرياني ، وقول الرازي أنه من أصل سرياني، وقول أهل الكوفة أنه من أداة التعريف “إل”  كما ينقل عنهم الطبري “. [1]

كيف تطور “ايل” الإله الكنعاني إلى “الله “جل جلاله

كيف تطورت صيغة “ايل” إلى “إله” ومنها إلى “الله” يرى كنعاني ” أن هذه الصيغ والعبارات تتردد في نقوش الآراميين في سوريا الوسطى والجنوبية ، وفي نقوش الأنباط  ، والصفويين ،  من سوريا ، حتى الكثير من النقوش التي حفرت على صخور مبعثرة ، من النادر أن يخلو نقش منها من اسم أو أكثر تدخل الصفة ايل في تركيبة  ، هذه النقوش تحمل إشارات واضحة إلى التطور الذى لحق بالصفة “ايل ” من حيث البنية والمدلول  ، فمن حيث البنية تتردد في النقوش وبكثرة صيغ مختلفة للصفة ايل مثل “ال”  “ال ه ا ” ” ال ه م ” ما يعنى أن الصفة ايل تطورت إلى اسم إله ثم أضيفت الضمائر إلى الاسم  ، فقيل “إلهه” “الهم” “إلهى” هذا يدل على أن الصفة “ايل ” تحولت الى اسم “إله ” أضفته الشعوب على صفات القوى العالية التي تقربت من الإنسان أو فلنقل أن الإنسان تقرب منها على حد قول كنعاني .[2]

الإنسان المشرقي القديم وضع أسس اللاهوت والشرائع في الشرق الأوسط

الإنسان المشرقي القديم كان إنسان إيجابي فاعل استطاع عبر استعمال عقله أن يدرك الألوهة وأن يلامسها بوعي ولعل ذلك ما دفع صمويل كريمر إلى القول: ” أن السومريون / المشرقيون كانوا قد أطالوا التأمل في الطبيعة، وفكروا في نشأة الكون، وكيفية قيامه وتدبره، وهناك دلائل تشير إلى أن مفكريهم كانوا في الألف الثالث قبل الميلاد قد وضعوا قواعد للكونيات واللاهوت، قد أصبحت تلك القواعد بعدهم أسسا للقواعد والشرائع التي عرفت في منطقة الشرق الأوسط „. [3]   

ويضيف بشار خليف ” اللافت للنظر في نظرة المشرقين لنشوء الكون أن من أنشأه هو إله أو آلهة مشيرا إلى أن بنيتهم الدماغية لم تكن وصلت إلى درجة من التطور تكشف لهم المحجوب من الظواهر والرموز،  فقد توقفوا عند أن من صنع الكون هو حتما كائن أو كائنات فوق بشرية وغير مرئية وإحساس الإنسان بالعجز والصغر أمام ضخامة وعمق السماء والكون جعلت الإنسان مدركا بأن ثمة رموزا غير منظورة هي التي تتحكم بهذا الكون الشاسع،  وهى خالقته منذ الأزل ، هذه الرموز أطلقوا عليها صفات الآلهة كان يحكمها سيد إله =أعلى في السماء لا يرى لكنه يدير دفة الكون والحياة  ، ويشرف على الآلهة الأدنى التي نشأ منها الملائكة،  كما تبدت في الأديان اللاحقة .  ويضيف خليف: يوجد إضاءة في التفكير المشرقي على أن الخلق الكوني لم يتم من العدم أوفي عدم في كل حالة توجد مادة خام هي التي تخلق الأشياء منها، ويلاحظ أيضا أن الماء هو المادة الخام الأصلية، وهذا ينطبق على مجمل الفكر الإنساني الديني والدنيوي اللاحق فالماء الأول = المحرك الأول = العلة الأولى „. [4]   

وتشير الوثائق إلى أن فجر الألوهة تمثل في الإله ” آنو “الذي اختص بمجمل عالم الألوهة في الألف الثالث قبل الميلاد ثم بعد ذلك “ايل ” الكنعاني الذي يشابه آنو وصولا إلى الله في الأديان السماوية.

يشير كريمر” إلى أن الإنسان المشرقي الكثير الـتأمل كانت له القدرة العقلية على أن يفكر تفكيرا منطقيا مترابطا ومفهوما في أى قضية فكرية بمافي ذلك قضايا أصل الكون ونظام سيره، لكن العقبة التي وقفت أمامه أنه كانت تنقصه الحقائق العلمية، كما كانت تنقصه أيضا الوسائل العقلية الأساسية كالتعريف والتعميم ثم انه لم يدرك مطلقا عمليات التطور والنمو. [5]

مجمل الوثائق التي تم العثور عليها تشير إلى اعتقاد الإنسان المشرقي في أن الخلق الذي تم كان على مبدأ القوة الخالقة “الكلمة الإلهية “وهذا ما ساد فيما بعد في كل المعتقدات والأديان اللاحقة، فحسب هذا المبدأ كل ما ينبغي على الإله الخالق العالي أن يفعله هو أن يقول الكلمة وينطق الاسم للشيء المراد خلقه، أطلق الإنسان القديم على هذا المبدأ “مى ” مجموعة القواعد والنواميس المنظمة لكل ظاهرة أو ماهية كونية ويتلخص موجز خلق الكون في ملحمة “جلجامش “. 

وتشير هذه الوثائق التي تم العثور عليها في منطقة الهلال الخصيب إلى أن فجر الألوهة بزغ مع أول انبثاق للفكرة في الدماغ الإنساني فمع تطور الفصوص الدماغية بدأت تظهر الحاجة للروحانيات والتي بدأت تعبر عن نفسها في إنشاء المعابد الأولى في التاريخ حيث يوجد خط حضاري واحد في بعده الروحي يصل بين أول معبد ظهر في التاريخ وحتى آخر كنيسة أو جامع أقيم في عصرنا الحالي.

يقول بشار خليف ” إن غاية المعبد في الظهورات الأولى كان من أجل إقامة الطقوس والشعائر بغض النظر عن ساكن المعبد ، وتدريجيا ومع العصور الزراعية ، وبالاتجاه نحو العصور التاريخية الكتابية في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد ، سنجد أن المعبد أصبح مسكنا للرموز الطبيعية كمعبد للشمس أو للقمر ، معبد لإله سماوي بعيد لا يتدخل في شؤون البشر بشكل مباشر، إنما عبر ملائكته التي اعتبرت أنداك آلهة متعددة أقل درجة ومستوى من سيد السماء البعيد ،  بعد الرموز الطبيعية التي سكنت المعابد طيلة العصور التاريخية والقرون الأولى الميلادية حتى تم تكريس الله الواحد في الديانة المسيحية ثم الإسلام ” . [6]

يذكر خليف أن التدين أصبح فعل حياة وعقل يحياه الإنسان آنذاك بكامل جوارحه حتى ليظن أننا أمام كائن خلق تماما لخدمة الإله وطاعته حتى يحظى بالحياة الغنية والعمر المديد، فكل منتج للعقل البشرى كان بتصورهم من صنع وابتكار القدرة الخالقة العلوية، وهذا ما يمكن تلمسه في قوانينهم الاجتماعية من قوانين عشتار إلى قوانين حمورابي، كلها قدمتها الآلهة للإنسان، رغم أنها قوانين وضعية، وضعها قانونيو العالم القديم، فلنتأمل بعض ما عثر عليه على جدران معابدهم

الماء أساس الحياة

خلق الإنسان من طين

المعبد بيت الله 

الصلاة – الثواب والعقاب 

عدم الشرك –الصلاة –الصوم

ما يهم هنا فكرة الصلاة والصوم وغيرها من الأمور المعتقدية المؤسسة للمنهج العقائدي والديني للإنسان حيث يشير صمويل كريمر إلى أهمية هذه الأفكار المؤسسة للحياة الدينية لدى المشرقيون، ففي غضون الألف الثالث قبل الميلاد أنشأوا أفكارا دينية ، ومفهومات روحية ، خلقت أثرا لا يمحى في العالم الحديث ، لاسيما في الأديان السماوية ، فقد وضع المشرقيون علما للكون والاهوت ، إلى حد أنهم أصبحا في أساس العقيدة والإيمان المسلم بها في الكثير من أديان المشرق القديم .

الألوهة خالدة مقابل فناء الإنسان

تقدمت الذهنية المشرقية خطوة للأمام حيث منحت الإله العالي الخالق سيد الأرباب الملائكية ومعاونيه صفة الخلود، فالألوهة خالدة مقابل فناء الإنسان، هذا ما كشفت عنه الوثائق فهناك وثيقة تعود إلى الثلث الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد تعرف باسم “الأسطوانة مى ” تحتوي على وصفا للبيت الإلهي نجد الآلهة الثانوية التي اصطلح على تسميتها “الآلهة الملائكية ” تؤدى عملها بصفتها موظفين تمد الكهان البشريين بالمشورة الإلهية في بيت ننجرسو وهو إله العواصف الرعدية. [7]

كلما عبرنا بالزمن في العصور اللاحقة نجد الذهنية أخذت تحاول تصور أكثر دقة، وتحليلا لتصورات الألوهة ورموزها، فمعظم الوثائق تشير بما لا يدع مجالا للشك أن الفكر المشرقي كان قد لامس التوحيد، فكل مظاهر الألوهة الملائكية وأفعالها هي ترجيح لكلمة الخلق الأولى المتجسدة في الإله الخالق الواحد.

في ذلك يقول جان بوترو في كتابه ” ديانة البابليين: ” أن المفهوم الديني الخاص بالمشرقين تجاه الله والمتأتي من احتفاظهم بالشعور بالعظمة الإلهية من بعيد وشعورهم بحضور الإله في كل مكان بهذا القدر الكبير قد برهنوا أنهم من الشعوب الأقوى تدينا على الأرض ولعل من بين الديانات العالمية الكبيرة والمنتشرة في العالم نجد أن المسيحية والإسلام تعود جذورهما إليهم أى المشرقيين ” 

ويشير بوترو ” لقد حافظ المشرقيون تجاه الله على بعد مناسب لما لهم تجاهه من احترام وعاطفة قوية يظهر ذلك في اصطلاح ” الله أكبر ” الذي يقوله المسلمون دائما „.

هل “الله ” من ابتكار القسم الحوفي في الدماغ البشرى

يقول خليف ” ينبغي أن نؤكد على أن هذا الدفق الإنساني للإله العالي، كان من ابتكار القسم الحوفي في الدماغ، مدعوما بمعالم الإدراك التي تمخضت عنها تطورات القشرة الدماغية، مشيرا أنه في ضوء ذلك ممكن أن نفهم مقولة كارين أرمسترونج ” مهما كانت النتائج التي نتوصل إليها حول حقيقة الله فإن الفكرة يجب أن تخبرنا شيئا عن العقل البشرى، فنحن بحاجة إلى رؤية ما كان الناس يفعلونه عندما بدأوا عبادة الله، وماذا كان يعنيه لهم وكيف تصوروه، وللقيام بذلك علينا

ان نعود إلى العالم القديم في الشرق الأدنى، حيث ظهرت فكرة إلهنا تدريجيا قبل نحو1400 سنة „. 

لنقف هنا ونتابع في مقالنا القادم هل عرف الإنسان القديم الوحي؟ وكيف؟ 

مصادر

• كتاب الدكتور جورجي كنعاني – مفهوم الألوهة في الذهن العربي القديم – الصادر عن دار بيسان للنشر –بيروت ص339

• نفس المصدر السابق ص338

• كتاب صمويل كريمر – من ألواح سومر ص62وص63

• كتاب الدكتور بشار خليف – مراجعة وتدقيق الدكتور محمد محفل ” نشوء فكرة الألوهة مقاربة تاريخية ” عن دار الأهالي للطباعة والنشر – دمشق –سوريا ص70

• نفس المصدر السابق ص71

• نفس المصدر السابق ص50، ص51

• نفس المصدر السابق ص111

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق