سياسة

جراح حي الشيخ جرّاح

علي أنوزلا

في عز موسم الهرولة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي دشّنته دولة الإمارات في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تحت عنوان “صفقة القرن”، تغنّى المطبعون برواية ظلوا يردّدونها على أسماعنا لإقناعنا بصواب فعلهم، أن التطبيع هو الطريق الأوحد والأخير إلى السلام مع كيان غاشم مغتصب مجرم، وهو منزلةٌ بين المنزلتين، ما بين الاستسلام لأمر واقع فرض بقوة الحديد والنار، أو الاستجداء للمحتل والتملّق إليه، لعل وعسى بكل ما يفيد الفعلان من توسل مذل وتَرَجّ مهين. رواية المطبعين القريبة إلى السذاجة يصعب أن يقبلها العقل، أو يطمئن إليها القلب، أو يحترمها ذكاء من له القدرة على التمييز البسيط بين الغباء والخيانة، كانت وما زالت تقول إن فعل التطبيع سيمنح القدرة لأصحابه على التأثير على المحتل، ويمنحهم القرب منه التوسّل إليه، لثنيه عن مزيد من التنكيل بضحيته واغتصاب حقوقه. وهكذا تم ترويج الشعار الصهيوني المضلل والمخادع “التطبيع مقابل السلام”، لكن السلام مع دول بعيدة لم تُغتصب حقوقها ولم يُنكل بشعوبها، سلام بين من لا يملك مع من لا يستحق وعلى حساب أصحاب الحق المغيّبين.

وكان يجب أن ننتظر حتى ينتفض أهل حي منسي في مدينة القدس الشريف، الشيخ جرّاح، لتتساقط كل أوراق التوت عن عورات المطبّعين، ويعاد نَكْءُ الجراح التي لم تندمل قط منذ نكبة 1948، لنعيد اكتشاف حقيقة الكيان الصهيوني العنصري والمغتصب الذي قام على نهب الحقوق من أصحابها وتقتيلهم، حتى يخفي معالم جريمته التاريخية النكراء. وكأن هناك من بيننا من لا يزال يبحث عن دليل الإدانة للجرائم التاريخية، وتلك اليومية التي ترتكب عن سبق إصرار وترصد، بدعوى تنفيذ وصايا نصوص أسطورية، تبرّر للمغتصب جرائمه، وتمنحه شرعية مزيفة لطرد أصحاب الحق الأصليين، وتهجيرهم وتشريدهم واعتقالهم وقتلهم، عندما يرفضون أن يُخلوا بيوتهم ويهجروها طوعا واستسلاما لقطعان همجٍ من المستوطنين القادمين من أصقاع الأرض، بحثا عن وهم كبير صنعته لهم آلة الدعاية الصهيونية، وزينته لهم نصوص أسفار توراتية مفترى عليها، ما أنزل الله بها من سلطان.

لقد وضعت هبّة حي الشيخ جرّاح أنصار التطبيع والمهرولين إليه أمام التناقضات الصارخة التي تقوم عليها روايتهم المتهافتة على تبرير الاستسلام لعدو تاريخي غاشم، يصعب تغطية، وبالأحرى تبرير، فعله الاستيطاني والاحتلالي الهمجي. ووجد المتهافتون على التطبيع أنفسهم أمام خيارين صعبين، إما دفن رؤوسهم في الرمل، فهم “صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ”، لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون ولا يرجعون، أو “مُذَبْذَبونَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ”، مثل الشاة العائرة بين غنمين، ضُرب على سمعهم، فهم لا يسمعون، وختمت على أبصارهم غشاوة، فأصبحوا متحيّرين في أمرهم، يعلمون أنهم يعملون السوء بغير جهالة، ولكنهم لا يتوبون، مثلهم مثل من تبوّل في الموقد الذي ينير طريقه، فصار تائها في سيره حائرا من أمره، ومتعجرفا متكبّرا، لا يريد الاعتراف بخطيئته.

عندما أراد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة تبرير تطبيع علاقات بلاده مع الكيان الصهيوني، قال، بسذاجة مذهلة، إن مكتب الاتصال المغربي، الذي اعترف بأن المغرب ظل يحتفظ به في تل أبيب، ويدفع إيجاره شهريا، على رغم قطع المغرب علاقاته رسميا مع الكيان الصهيوني، طيلة العقدين الماضيين، كان يقوم بـ”أدوار إيجابية” في التوسط بين بعض الباعة الفلسطينيين المتجولين أو أصحاب محلات تجارية صغيرة، عندما كانوا يلجأون إليه مشتكين من مضايقات سلطات الاحتلال، فيتوسط لهم لدى الإسرائيليين! كان هذا لسان حال الوزير المغربي، المتلهف إلى التطبيع. وصدر تصريحه في عز “موسم التطبيع” تحت الرعاية الأميركية غير المباركة، فماذا كان جواب حكومة بلده التي يرأس عاهلها “لجنة القدس”، وهو يرى المقدسيات والمقدسيين يُهانون ويذلّون ويشرّدون ويعتقلون ويقتلون؟ بعد صمت طويل لم يسعف أصحابه في إخفاء حرجهم وخذلانهم، صدر بيان خجول، وليته لم يصدر، يدعو الضحية إلى الحوار مع جلادها للتنازل له عن بيتها من دون حتى أن يضمن له كفّ شرها الذي يلاحق الفلسطينيين في الملاجئ والشتات لانتزاع هويتهم الوطنية، بعدما انتزع منهم أرضهم الفلسطينية.

وعلى الرغم من مآسي أهالي حي الشيخ جرّاح، ومعهم آلاف المقدسيين والفلسطينيين الذين هبّوا إلى نجدتهم، وسقط منهم الشهداء والجرحى والمعتقلين، إلا أن الفضل يعود لهم ولصمودهم الذي فتح أعين العالم على حقيقة الكيان الصهيوني الغاصب، عندما أعاده إلى طبيعته الأولى التي قامت عليها دولته العنصرية كيانا محتلا، وأعاد إلى القضية الفلسطينية وهجها الإنساني والعالمي، قضية عادلة لشعبٍ مظلوم، لكنه جبار صامد لا يقهر. وفي المقابل، إذا كان لهبّة حيٍّ صغير في القدس أن تفعل فعلتها في واقعنا المتخاذل والمتواطئ بصمته، وتعرّي زيف كل خطابات التطبيع والاستسلام، فإن الفضل الكبير لأهل هذا الحي سيبقى هو كل هذه الجراح غير المندملة التي فتحوها في وجداننا ووعينا التاريخي، حتى لا ننسى التمييز بين الجلاد والضحية، وبين الصديق والعدو والصديق ذي الوجهين الذي لا هو صديق ولا هو عدو.

(٭ عن العربي الجديد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق