ثقافة وفن

ثقب في جدار الصمت

قراءة في رواية " ثرثرة في المعتقل" للشاعرة المغربية أمينة الجباري

بوسلهام عميمر

بعد إصدارها لستة دواوين شعرية، تطل اليوم على الساحة الأدبية الشاعرة أمينة الجباري برواية شعرية فريدة من نوعها، اختارت لها باقتدار عنوانا مثيرا “ثرثرة في المعتقل” يطرح أكثر من سؤال. الرواية من عتبتها إلى آخر بيت فيها مرورا بإهدائها صرخة صادحة، تكشف بفنية عالية عما تعيشه نسبة كبيرة من النساء وراء جدران البيوت من أحزان وأوجاع مروعة. إنها ثقب في جدار الصمت الحديدي المضروب حول معاناتهن ومآسيهن ولواعجهن. فسلطة المجتمع في البلاد محدودة الوعي سيف مسلط على رقابهن، يصعب معه البوح ببعض هذه المعاناة، والكشف عن جزء منها. فالخوف من العار والفضيحة وسمعة الأسرة والعائلة، يجعلها تطوي أحزانها طي السجل للكتاب. تختار له مكانا قصيا في دواخلها. وبين الحين والآخر تتناوله في غفلة من الرقيب، لتقلب بعض صفحاته بحذر، وهي تنتحب في صمت. أبدعت الروائية في الكشف عن المستور السوداوي المؤلم، في قالب فني أعتقد أنه غير مسبوق. إذ يمكن القول عن الرواية أنها قصيدة شعرية من مئات الأبيات. لكن ما يحفظ لها أنها بقدر حرصها على مستلزمات الشعر، من أوزان ولغة إيحائية غير مباشرة وصور بلاغية منحوتة بعناية فائقة تضفي على المضامين طابعا خاصا على الرغم من مأساويتها، بقدر حرصها على أن لا تفرط قلامة ظفر في البناء الروائي ومقوماته، من شخوص وإن لم تسمهم ربما انسجاما مع رمزية الشعر و إيحائيته، أو لربما إعدام أسمائهم قصدا خاصة شيخ القبيلة المتسلط وابنه الآلة المنفذة طغيانه، تضامنا مع بطلة الرواية ياسمين التي هي جزء منها، لما خلفوه في نفسيتها من جراحات غائرة وعاهات و انكسارات. فالرواية تغطي ثلاثين سنة بالتمام والكمال من عمر البطلة، كلها انتظارات عسيرة للذي يأتي أو لا يأتي. كلها معاناة بمكان ليس كأي مكان، عبرت عنه الكاتبة بالمعتقل، وحبكة درامية أحكمت نسج خيوطها، ونهاية غير منتظرة اختلط فيها الفرح بالقرح، تقول

زلت لسانه

فأطلق الرصاصة الأخيرة

يقول رفعت يدي عنك ويمكنك الرحيل

أما وقد أكملت ثلاثين عاما صار أمرك بيدك

ولك أن ترحلي الآن إن شئت

ومن بعد الإفراج عنها

كانت كورونا بالمرصاد تقول:

يا وجعي تحررت في زمن الحجر وبعد كل

الانتظار والتمني تعتقلني “كورونا”

اااه يا قدري

فتحت أبواب القبيلة وأغلقت أبواب السفر

لنتصور بعد ثلاثة عقود من الانتظار القاتل، على وقع الصفع واللطم والجلد، والشتم ولا حق لك حتى في الصراخ كما ورد في المتن الروائي، وكان ما هو أبشع، الاغتصاب بما أن الجسد سلمت فيه مكرهة. فهل هناك عذاب أفظع وأبشع من هذا؟ إنها لوحات تشكيلية راقية في مبناها رغم مسحة الحزن والأسى الذي يطبع مبناها. كل لوحة تعكس نصيبا مما عاشته ياسمين بطلة الرواية من آهات وعذابات وإهانات، يشيب

لها الولدان في معتقلها الفريد من نوعه. هناك و هي بين أنياب القبيلة التي ابتليت بالزفاف إليها، أدركت بحسها الإبداعي أن المعتقل ليس بالضرورة، هو السجن عالي الأسوار مسيج بالأسلاك الشائكة.  عبرت عنه قائلة:

قد يكون المعتقل بيتا جميلا بإطلالة رائعة

قد يكون قصرا

ويبقى كل مكان نسكنه رغما عنا سجنا

كل مكان نفقد فيه حريتنا وإنسانيتنا.. سجنا

كل مكان نعذب فيه ونغتصب فيه يكون سجنا

كل مكان تصادر فيه حقوقنا، ابتساماتنا

يكون سجنا

ما أكثر السجون وما أتعس السجينات

لا فرق بين ما تعانيه هؤلاء النسوة وما يعانيه السجناء بالمعتقلات من حرمان من أبسط الحقوق على أيدي سجانيهم الغلاظ الشداد، ممن لا يألون جهدا في إذاية المغلوب على أمرهم، ممن هم تحت رحمتهم لا حول لهم ولا قوة. يتفننون في تعذيبهم. ففضلا عن الإذاية الجسدية هناك ما هو أبشع، لما يصل الأمر إلى منع السجين حتى من أن يختلس ابتسامة عابرة، قد يفقد فيها السجان عمله، إن ضبطت الابتسامة في جناحه. فقد ابتليت بأتعس معتقل، بما أنها كانت من نصيب ابن شيخ القبيلة الآمر الناهي الذي لا صوت يعلو على صوته. برعت في تصوير جبروته وطغيانه وتسلطه بصورة غاية في القتامة:

في القبيلة جمع كبيرهم أحلام النساء، وجعلها حطبا لمدفئة الشتاء، فتسمع طقطقة احتراق أحلامهن. الرواية حافلة بمثل هذه الصور الشعرية البديعة، حتى ليصعب حصرها والإحاطة بها مجتمعة. كانت وسيلتها لتبليغ رسالتها إلى قارئها أسمى تبليغ. لنتابع بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر، وهي تعبر عن قمة الألم في معتقلها تقول:

تعلمت كيف أعيش مرة مع الناس

ومعي ألف مرة

مشغولة أنا بالبحث عني بين أكوام الخيبات

لا أعرف كيف أعيد ترتيب أطرافي ولا ترتيب أصابعي

وفي صورة بديعة تستلهم قصة نبي الله يوسف عليه السلام، تقول:

لو أنهم ألقوا بي في جب عميق

لكان عندي أمل أن يلتقطني بعض السيارة

لكنهم تركوني بين الجدار والجدار

وبمرارة تحكي كيف سقطت في شرك هذا المعتقل قائلة:

كيف زلت قدمي ودخلت القبيلة

كيف صدقت أن الهودج سيحملني لأرض الحلم الأبيض

وهو في طريقه إلى معتقل القبيلة

كان حلمي أن أركب هودجا يحطني بمملكة أكون فيها سيدة النساء

صار حلمي أن أتحرر من زمن ما عادت فيه إماء

وأنجو بما بقي لي من ملامح النساء

فما تحكيه الكاتبة من معاناة وآلام هو قسمة عادلة بين كل نساء القبيلة، وإن كان نصيبها هي أوفى وأعظم، بما أن قدرها ساقها إلى بيت شيخها المتجبر والمتسلط. عبرت عن حالهن أبلغ تعبير.  في القبيلة النساء منسيات كجرة مشقوقة قديمة متهمة بجلب النحس حزينات ضعيفات متعبات كأسيرات حرب ظالمة في القبيلة الدمع جريمة والبكاء حرام وبتحد صارخ تقول عن نفسها:

لكنني نكاية بالقبيلة بكيت وكتبت تتطور الأحداث ويشتد الخناق حول رقبتها لدرجة الاختناق، لتصل المأساة ذروتها، فتقول:

تعرفني العتمة، أترك المصابيح تستريح

لا شيء يستحق الضوء

سريري، الممر، المطبخ، الحمام

لا شيء يستحق الضوء

صور شاعرية جميلة مفعمة هما وغما، وتشبيهات غاية في الدقة تعكس حالة ياسمين وهي تكابد الأهوال في معتقلها:

متعبة أنا

كجندي حزين، فقد في الحرب ساقه، سلاحه وحلمه

فحمل الحرب معه إلى سريره ليموت كمدا

متعبة أنا

كعصفور خارج السرب، تاه عن عشه ونزعت الريح ريشه

وتركته لبرد الليل

متعبة أنا

رواية على امتداد صفحاتها جمعت بين الفن الروائي بعناصره الأساسية، والفن الشعري في قمة سموه وجماليته. فكانت من الروايات القليلة، ربما غير مسبوقة في بنائها الدرامي هذا. وحتى مسرح حركة شخوصها ودوران أحداثها، بتناولها لموضوع حساس، لا أعتقد أن تناوله أحد قبلها بهذا العمق “ليس من رأى كمن سمع”. أسعفتها شاعريتها الرقيقة ولغتها السلسة الأنيقة لتعبر عن مأساة النساء بين الجدران، وتنشر معاناتهن على الملأ تحت الأضواء الكاشفة. فكانت بحق لسان حالهن، ليس فقط ما يتعرضن له من تعنيف جسدي محط اهتمام الحقوقيين والحقوقيات، ولكن تجاوزته الرواية إلى ما هو أكثر حساسية وحميمية بلغة راقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق