سياسة

خارج المتاهة

فترات الانتقال ... مصالح ومفاهيم

محمد عتيق

مع سقوط النظام العسكري الأول في أكتوبر ١٩٦٤ دخلت عبارة “الفترة الانتقالية” في القاموس السياسي السوداني، ومهما كانت المقاصد والنوايا تجاه هذه العبارة فإنها ظلت تعني عملياً الترتيب العجول لانتخابات برلمانية عامة تقوم بها حكومة تسمى “الحكومة الانتقالية” خلال عام واحد .. وظلت هذه المهمة “إجراء الانتخابات العامة” هي جوهر المهام، مبتدأها ومنتهاها، أمام حكومة الثورة/الانتفاضة في تجربتي ٦٤ و ١٩٨٥، والآن، بعد ثورة ديسمبر ترتفع بعض الأصوات أحياناً، وتهمس دائماً، بمطلب الانتخابات المبكرة .. هذه الأصوات والقوى التي تقف خلفها تلتقي تماماً مع الأحزاب المعروفة بالتقليدية، هي أصوات الإسلام السياسي، أصوات القوى التي حكمت البلاد ثلاثين عاماً ونشرت ثقافتها القائمة على الفساد والبطش والدجل، التدين السطحي والاستبداد والاهتمام بالمتع الدنيوية الرخيصة، تريد استثمار بقايا آثارها ونفوذها الاجتماعي في انتخابات مبكرة تضمن بها العودة إلى الحكم بمظاهر جديدة والنجاة من مسئولية عهدها الأكثر سواداً في التاريخ السوداني المعاصر، ولا تجد المؤازرة إلا من تلك القوى التقليدية التي تلتقي معها في بندين أساسيين : المصالح الطبقية الضيقة ثم العداء الشرس للوعي، الوعي المستند على العقل والعلم، على انتشار التعليم واتساعه، على الاستنارة بمعانيها ألإنسانية الواسعة، فالوعي هو السلاح الأخطر في مواجهة مصالحها وتجفيف منابع الطاعة والتبعية لها، فهي جميعها لن تستطيع الفوز إلا بالانتخابات المبكرة التي تجري والمجتمع على حاله ؛ أفراده على طيبة متناهية وتدين فطري يجعلهم يأنسون للولاءات الطائفية والقبلية، فالجهل والتخلف يسودان والأمية نسبتها عالية ..

نتيجة لهذا الفهم البائس لمضمون الانتقال، وممارسته في التجربتين الماضيتين (٦٤ و ١٩٨٥) تعمقت أزمة وطننا طولاً وعرضاً وزرعت فيه مزيداً من عناصر التفتيت ممثلةً في القبلية والجهوية ..

أيضاً لهذا التخلف – شئنا أم أبينا – آثاره على قوى التقدم والاستنارة المفترضة، القوى الحديثة، هي آثار مزدوجة : استسهال الأمور، النزعة الفردية، ودوام المواقع القيادية تسود وسط كوادرها وأعضائها من ناحية، ومن ناحية أخرى تجد ان تخلف التعليم وبؤس مناهجه قد أنتج إنساناً ضعيف المقدرات  ومحدود الاهتمامات فضعفت حركة الاستقطاب وتغذية أحزاب التقدم، تجديد عضويتها وشرايينها، لتتواصل الأجيال فيها بشكل طبيعي.

الانتقال الذي أمامنا – في الحقيقة – يعني التصدي لمهام جسيمة، مهام عميقة ومتشابكة لا تقتصر على هدم السياسات والمناهج التي أرساها النظام السابق (الذي أسقطته ثورة ديسمبر ٢٠١٨) وإرساء بدائل جديدة فحسب  لأن الإسلامويين وجدوا ابتداءاً تربةً مواتيةً أقاموا فيها تلك السياسات والمناهج، أي أنهم مضوا بالأزمة لأقصى درجاتها وفي كل الاتجاهات ولم ينجبوها، وبالتالي ازدادت مهام الانتقال لتعني مواجهة تلك التربة التي مهدت لمثل هذا الدمار الشامل في وطننا، وأهم جوانب تلك التربة تتعلق بالعقل والمفاهيم السائدة في مجتمعنا منذ عشية الاستقلال، في استيعاب أن مجتمعنا متعدد الثقافات والأعراق، في تنمية الوعي والارتقاء به إلى مدارج التجرد للوطن، للحزب وبرنامجه مع قبول الآخر والاقتناع بضرورته وأنك لا تملك الحقيقة وحدك فجزء منها عند كل حزب وفصيل… الحديث يطول عن مهام الانتقال الكامل الذي لا يكتفي بميراث الثلاثين عاماً الأخيرة، رغم ضخامته، وإنما الانتقال عن كل الإرث المتراكم على عاتق وطننا وشعبنا منذ الاستقلال والذي أنجب لنا حكم الإسلاميين الكالح، الحديث يطول عن تلك المهام ولكنها كلها محكومة، أو تأتي في إطار إرساء تعليم عصري عالي الجودة ينتج أجيالاً مسلحةً ليس فقط بالمهارات والعلوم الحديثة وإنما أيضاً بأخلاق عالية تجعل من الصدق قيمةً أساسيةً، لا تزوير، لا كذب وإنما نعني ما نقول تماماً … موروثنا من التخلف وحياة الأزمة أصبح أكثر عمقاً ونفاذاً في الحقبة الإسلاموية الأخيرة ولذلك نرى الكذب والاستهبال والتزوير سلوكاً عادياً في مؤسسات الانتقال التي أعقبت سقوطها، انتهت أيام الصدق والتجرد وتقديم الأرواح والدماء والأوصال في محراب الوطن التي رأيناها في شباب الثورة، أجيال السودان الجديدة، انتهت بسقوط رأس النظام وتسليم أمانة الحكم والانتقال لقوى الحرية والتغيير والقيادات العسكرية (لكي لا نقول اللجنة الأمنية والمليشيات وعمليات جهاز الأمن…الخ) فبدأ الكذب والتزوير من تلك اللحظة الأولى: فض الاعتصام (قتلاً وحرقاً واغتصاباً)، تزوير الوثيقة الدستورية على بؤسها وخرقها، اغتصاب سلطات ومناصب، وشارك العسكريين في ذلك السيد حمدوك الذي أتت به الثورة رئيساً للحكومة .. أما الأحزاب السياسية – أعمدة المدنية والديمقراطية – فقد ذهبت في تنافس محموم تبحث عن مواقع السلطة والنفوذ، تتحايل وتتلون لينتهي بها الأمر متخندقةً إلى أقسام: قسم اختطف اسم “قحت” وذهب شريكاً لحمدوك والعسكريين في السلطة، وقسم تم عزله فأصبح كل همه وجهده مركزاً في الاحتجاج والدعوات المستمرة لإصلاح “قحت” وضد العزل، والقسم الثالث وقف بعيداً بإرادته متزيداً على الجميع معتقداً امتلاك الحقيقة ومفاتيح الحركة الجماهيرية …الخ..

هي الأوضاع التي حرضت النظام الساقط، الذي ارتعد خوفاً من الثورة واتصال صعودها فذهب يتلمس المخابئ ووسائل النجاة، حرضته على أن يبرز إلى السطح ويدير معاركه ضد الشعب والوطن.

ولأن المهام كبيرة والثورة – وكما يقول الجميع بدوافع شتى – ثورة عميقة وجذرية، أساسها الوعي وإعادة تأسيسه، ستستغرق وقتاً ليس بالقصير، وعلى مراحل.. تحتاج مرحلتها الحالية أن تلتقي كل الاحزاب والقوى العسكرية (النظامية وغير النظامية) على تنفيذ المهام التي تتفق حولها رؤى الجميع شريطة أن تتضمن:

– سرعة تأسيس السلطة التشريعية بالكيفية الواردة في الوثيقة الدستورية بعد التشاور والتنسيق مع أطراف السلام.

– استكمال السلام وتنفيذ مهمة الدمج والتسريح وإعادة التأهيل لكل الحركات المسلحة والمليشيات بالسرعة اللازمة على طريق تأسيس قوات نظامية واحدة ذات مهام وطنية محددة.

– انشاء مؤسسات عدلية مستقلة تعمل على استكمال التحقيقات وتنفيذ الأحكام التي صدرت وستصدر بحق من ارتكبوا جرائم، وأن يتساوى الجميع أمام القانون والخضوع لأحكامه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق