آراء

كوكاسيات

أنقذونا ‬من ‬هذا ‬الحقد القاسي

عبد العزيز كوكاس

“كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع؟”

                                                                         مصور أمريكي

هناك صحف تبدو جد أنيقة بقد ممشوق ووجه صبوح، وحين تقرأها لا تجد غير الهباء، وهناك صحف كثيرة تقرأها فتمتلئ يداك بالمداد وتتسخ أطراف كُمًّ قميصك الأبيض بالسواد، وهناك صحف عندما تنتهي من قراءتها تحس أن قلبك امتلأ سوادا، لا فرق بين سواد اليد وسواد القلب حين ينتشر الحقد الأعمى بيننا، ولست أدري من أين جاءت عادة شرب القهوة السوداء لحظة مطالعة سواد الجرائد؟

هل لنمسح بسواد هذا البن المارد اللذيذ.. كما وصفه تاليران، سواد الحقد الذي تنشره الصحف أحيانا؟ ترى ماذا كان سيقول أبو تمام لو حضر معاركنا “الصحفية” حيث تشحذ بيض الصفائح على سود الصحائف؟

أقول هذا وأنا أفكر في حروبنا الصغيرة التي استعرت في الآونة الأخيرة بيننا كصحفيين، حروب خرجت عن حدود المعارك الأدبية التي تغني الفكر والإبداع، وتثري القراءات بما تتضمنه من أفكار وآراء وتعدد وجهات النظر.. حروب صغيرة بوسائل بدائية لكنها قاتلة، لأنها انتقلت إلى النهش في الأعراض، واستعمال أساليب السب والشتم، وأثقلت كاهل القراء بكل هشاشتنا،وأخطائنا الآدمية الصغيرة جدا.

إنها حروب صغيرة تلك التي تدور رحاها اليوم بيننا معشر الصحافيين، أحس بالفعل أن الصحافة (تأكل أبناءها) وأبناؤها يأكلون بعضهم البعض على مائدة حسابات صغيرة لا تعني القراء في شيء.. لم نعد نميز بين الخبر والنميمة، بل إن الكثيرين منا أصبحوا مختصين في الغوص في تفاصيل الحالة المدنية لباقي الزملاء، وتحولت كتاباتهم إلى ما يشبه محاضر الضابطة القضائية، والذين يردون عليهم لا يقلون عنفا في كتاباتهم التي تنحرف عن أبسط قواعد المهنة والمبادئ الأخلاقية التي أنتجتها الصحافة عبر مسارها. أعتقد أن هذه الحروب الصغيرة التي وصمت الساحة الصحافية في الأيام الأخيرة، دليل على الضحالة الأدبية والبؤس الفكري الذي وصلنا إليه كصحفيين، وعلامة على اعتلال حقيقي يصيب الجسد وقيمه النبيلة.. وإذا كانت الصحافة هي ميزان حرارة الجسد المجتمعي، فإن اختلالاتها العضوية نتحمل أسبابها وإسقاطاتها بالضرورة، إذ ما جدوى أن يقتسم القارئ جرائدنا مع كأس قهوته أو ثمن رغيف الأولاد أو حاجياتهم الأساسية، إذا كنا سنغرقه في بحر تفاهاتنا، وكشف عورات بعضنا؟!

بالأمس كانت الصحافة تقتات على صراعات الآخرين.. أحزابا ونقابات ومنظمات المجتمع المدني، وبعدها بدأت تأكل ما في العلبة السوداء للماضي: أوفقير، تزممارت، أسرار الحسن الثاني، إدريس البصري، الانقلابات.. وزيد وزيد، وبعدها جاء الدور على العهد الجديد وأطره، ولأن الماضي لم يعد يغري الصحافيين.. أصبح محمد السادس ضمن الموضة الجديدة للإثارة (أستثني الصحف التي عالجت الموضوع باحترافية ومهنية)، وحين لم يبق شيء مما يثير، انقلب الصحافيون لنهش لحم بعضهم البعض.

لم تعد الكتابات الصحافية المتصارعة والمليئة بالكثير من الأحقاد توقر لا عرضا ولا شرفا ولا حميميات تدخل في جانب الخصوصية البشرية بنقط قوتها وضعفها الطبيعي.. واراك للنقد الدجاجي والترياش.. إنها المحرقة في حظيرة الصحافيين وقودها أحقاد صغيرة وحسابات بئيسة، لست في مقام النصح ولا إعطاء الدروس لأحد.. ولكن رجاء ارحمونا من هذا الحقد القاسي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق