ثقافة وفن

حرب الكلب الثانية

رواية مأساة البشرية السوداء (1)

جعفر لعزيز

حينما فرغت من قراءة راوية “حرب الكلب الثانية” للروائي والكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، تبينت أنه أديب بأدق المعاني، وكاتب متميز وأوسع من ذلك بكثير، شخصيا لم أكن أعرف الكاتب ولم أسمع عنه، إنما تعرفت عليه من قبل صديق لي مهتم بأعماله، ومنذ ذلك الوقت ألازم الكاتب وأقرأ له، قرأت رواية “حرب الكلب” مرتين، وأمعنت فيها النظر، فوجدت أحداثها تتلازم مع ما تعيشه الإنسانية من مأساة وهلع بفعل انتشار فيروس “كوفيد 19″، إنها الرضة السردية بتعبير سعيد يقطين، الواقعة بين أحداث كائنة وأفعال ممكنة، وبينهما يتجلى الفزع والهلع والرهاب.

نستهدي في استنطاق مكنونات الرواية بسؤال جوهري، يرتبط أساسا بموضوع المقالة، وهو ما تجليات مأساة البشرية السوداء في رواية حرب الكلب الثانية؟ سؤال يتسلل إلى جانب مأسوي واحد في الرواية، يرتبط بمستجد حرب العالم الآن، هناك أشياء كثيرة تبدت في صنيع إبراهيم نصر الله، ولكن نقتصر على جانب أجل وأظهر وأفيد، هو حينما تنبأ الرجل إلى الوباء الذي سيجعل دول العالم تنعزل وتنكمش ضمن حدودها، مانعة جميع التنقلات للحد من انتشار وباء حمى الجراد.

لن أسرد على القارئ أحداثا من الرواية، ولن أتكلف في وضع تلخيص لها، مسألة نعتبرها مكلفة ولا علاقة لها بالموضوع، إنما سأحاول أخذ نصوص من العمل وربطها بمستجدات حاضرنا اليوم، على اعتبار أن الرواية قد صدرت سنة 2016م، إلا أنها تثير جانبا من جوانب معاناة البشرية اليوم، وهذا هو السبب الرئيس الذي سيثير فينا رغبة البحث والاستقصاء والتحقق من بطون الرواية، وتقريبها إلى المتلقي، حتى يكون مشوقا إليها أشد الشوق، وشغوفا بها أشد الشغف.

ترك لنا إبراهيم نصر الله في الرواية أمورا لا نهائية، ليشغل بال القراء والنقاد بهذا الانفتاح، انفتاح يفتحنا على باب من أبواب المستقبل الراهن، وعلى آفاق الإنسانية الكائنة والممكنة كما تقول الرضة السردية، ولإبراهيم نصر الله قول طريف عميق في هذا، حينما قال: “وقد جرت العادة أن ينشغل النقاد بالنهايات المفتوحة التي يختتم بها الراوي العليم الروايات، تاركا لهم شيئا يلهون به، فهو يعرف، أي الراوي العليم، أن النقاد الأذكياء كالأطفال، عليك أن توفر لهم شيئا ما يلهون به، وإلا فإنهم سيتعبونك حقا”.

نص يؤكد بأن الرجل سديد القول، دقيق العبارة، نافذ البصيرة، عالم بأحوال النقاد ومطالبهم، وههنا يعلي من قيمته باعتباره راويا عليما، ومن قيمة النقاد بوصفهم أذكياء، وطبعا فقد ترك في النص أشياء تلهينا وتشغلنا لنبحث لها عن تآويل ومنافذ متعددة.

إن الوباء كما تعرض له الرواية ينتقل عن طريق السعال الذي يحدثه الآخر، فينتشر بوثيرة سريعة، ويتشابه تماما مع طاعون كوفيد19، الذي ينتشر عن طريق اللمس أو السعال وأشياء أخرى، مما جعل العالم يتخذ تدابير وقائية عديدة، هو وباء أرعب الناس وأفجعهم، وجعلهم يعيشون في فزع وخوف، قال الكاتب متحدثا عن انتقال العدوى إلى راشد: “سعلت، فسمع أكثر من سعال يأتي من الشارع ومن الشرفات المقابلة، وما هي إلا لحظات حتى انتقلت العدوى إليه”، “بمجرد أن لامست قدماه الأرض، سعل، ابتعدت السيارة، فعاوده السعال بقوة أشد، وما هي إلا لحظات حتى راح السعال يتصاعد من أربع جهات، وسط ظلام كثيف لا تقطعه سكين”.

يترابط هذا الحدث مع أحداث اليوم؛ إذ إن سبب تفشي الوباء هو السعال الحاد مع ملامسة الناس والاقتراب منهم ومخالطتهم، إذا كانوا مصابين بالمرض، إنها مأساة قادمة بقوة نعيش وقائعها الآن، تأكيد هذا قول الكاتب: “إن هنالك مأساة تتقدم، وأرى أن الكثيرين لا يدركون هذا”.

تسللت بنا الرواية إلى فكرة أن الإنسانية تتكشف حقيقتها – بتعبير طه حسين- حينما تلم عليها الخطوب وتلح عليها الكوارث، فكانت حقيقتها في الاستهزاء بالوباء والسخرية منه، ودليلنا من الرواية قوله: “بعض البشر تضحكهم المأساة أكثر مما تضحكهم الملهاة أو الطرف”، فالوباء حرب، والحرب مأساة إنسانية، والمأساة يصاحبها الشعور بالذعر والألم والضجر لا السخرية وما يشابهها، إلا أن قول الكاتب يتطابق تماما مع حالة بعض الشعوب التي استقبلت الوباء باستهزاء ولا مبالاة، فكانت النتيجة جد فظيعة، والأمر نفسه الذي تعرض له رواية الطاعون لألبير كامو، وقال مبينا هَزأ أناس مدينة وهران بالجزائر من الطاعون : ” الواقع أن البلايا هي شيء شائع، ولكنك تصدّقها بصعوبة حين تسقط على رأسك، لقد عرف العالم من الطواعين ما عرف من الحروب، ومع ذلك فإن الطواعين والحروب تفجأ الناس دائما،…يقول الناس: إنها لن تدوم طويلا، فهذا أمر مفرط في السخف، ولا ريب في أن حربا ما هي أمرٌ مفرط في السخف، ولكن ذلك لا يمنعها من أن تدوم…لذلك يقول المرء لنفسه إن البلية غير حقيقية، إنها حلم مزعج سيمر”.

السخف أمر شديد جدا، أحست به شعوب كثيرة، وأدلها الشعوب العربية وغيرها، التي شكّت من البلاء واستهزأت به، فأحدث بعد مروره بأيام كارثة عظيمة تحسب على أنها بطش ونكال على الإنسان، فوباء كوفيد19 يحصد الآن عددا لا متناهيا من الأرواح، نتيجة لعدم أخذ الحيطة والحذر، لم يكن الوباء حلما مزعجا فقط، كما جاء على لسان ألبير، إنما كان حربا مجحفة بامتياز، ولما بدأ بطرفة انتهى بمأساة، فالكاتب يعرض علينا لونا من ألوان عدم الجدية في التعامل مع الوباء، مما قد يحدث أمورا لا محمدة فيها ولا طمأنة عليها، “فالعصر الحاضر عصر يسوده شعور بالعجز والحيرة، فنحن نرى أنفسنا مسوقين إلى حرب لا يكاد يريدها أحد، وهي حرب -كما نعلم جميعا – لا بد أن تجلب كارثة للغالبية العظمى من البشر، ولكننا مثل أرنب سحرته أفعى تحدق في الخطر دون أن تدري ماذا تفعل لتجنبه”، وعليه تعرض حرب الكلب الثانية إلى سخف الناس واستهزائهم بالوباء، ويتماشى هذا مع أحداث العالم اليوم، الذي اشتد عليه فتك الطاعون.

قضية انغلاق العالم وانسداد حدوده وحظر التجوال، وانعزال الناس، وغلق المحال التجارية مسألة أشار إليها الكاتب أيضا، أبرز من خلالها شدة الطاعون على البشرية، بحيث جعلها تعيش أياما معدودة من اليأس والألم، يلجأ فيها الإنسان إلى الاحتكار والتباغض خشية أن يمتد الوباء وأن يعيش المرء في فقر ومجاعة، وهذا يبرز عدم التضامن في أبعد معانيه، قال الكاتب: “فالسلطات الأمنية هنا، وفي دول كثيرة، لم تعد تسمح بدخول أي سائح، بل وأغلقت الحدود أمام مواطنيها وألزمتهم بالبقاء حيث هم، ولم تكتف بهذا إذ قامت بنص شباك إلكترونية من الأرض حتى بداية الفضاء الخارجي لمنع أي حيوان أو طائر أو طائرة من اجتياز الحدود بعد أن استفحل الأمر وأصاب القارات كلها، وهم يعتبرون أن أي تواطؤ لتهريب أي شخص، أو حتى أي جندب أو نملة من جرائم الحرب”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق