سياسة

تفاهمات خان … وتحديات مناوي ومشهد مُوجع في “أبو شوك”

محمد المكي أحمد

الفرق شاسع  بين دلالات رسالة تتحدى، وتُسيء، وتقول (أوكامبو تحت جزمتي)  وهي مقولة  لرئيس النظام الديكتاتوري السابق، عمر البشير  أطلقها في  9 مارس 2009 ، وبين أجواء مُناخ جديد في السودان، فتح باب التعاون على مصراعيه الآن، مع المحكمة الجنائية الدولية.

تعاون ( السلطة الانتقالية) في الخرطوم  حاليا مع المحكمة الدولية، يعكس طبيعة الإنجاز، الباهر، الذي حققته  ثورة شعب السودان، التي شدت أنظار العالم ، ووضعت مرتكزات  مبدئية للعلاقة مع دوله ومنظماته  الحقوقية  والعدلية، وبينها  المحكمة الجنائية  التي تأسست  في العام   2002، لإعلاء قيم حقوق الإنسان، بمحاكمة مرتكبي (جرائم الإبادة والحرب).

معلوم أن علاقة السودان والمحكمة شهدت توترات ثم جرت مياه  كثيرة  تحت جسر العلاقة بين الجانبين ، ابتداء من  مرحلة المدعي العام السابق  للمحكمة لويس أوكامبو، الذي أخذ نصيبا وافرا، من الشتائم في مرحلة انتهت، مرورا بفترة فاتو بنسودا، إلى زمن مدعي  المحكمة الجنائية الحالي  كريم خان.

ومن بنسودا التي زارت الخرطوم، ومنها إلى دارفور، للمرة الأولى في مايو 2021، واستمعت إلى شهادات ضحايا حرب  وقمع ، هاهو  خان، اختتم زيارة  إلى الخرطوم الخميس الماضي 12 أغسطس 2021، وصفها بأنها ( مثمرة) .

هذه التطورات تُذكرنا إن البشير الذي قال إن قضاة المحكمة والمدعي العام ( تحت جزمتي) في خطابه الشهير بشمال دارفور، وامتد لسانُ شتائمه بقوله (أميركا وفرنسا وبريطانيا تحت جزمتي) تُطالب المحكمة بتسلميه وآخرين الآن.

تطورات اليوم تسجل للتاريخ  أن ثورة  ديسمبر الشعبية 2018، أطاحت بالمعادلات القديمة، وهاهي الحكومة الانتقالية، تُجدد التأكيد، بأنها قررت تسليم المحكمة، متهمين، بجرائم حرب وجرائم  ضد الإنسانية.

يُتوقع  أن يشهد الأسبوع الحالي تطورا بارزا في هذا الشأن ، إذ قال  خان    (أتوقع أن يتيح الاجتماع المشترك بين مجلس السيادة ومجلس الوزراء  في الأسبوع ( الحالي ) للحكومة الانتقالية فرصةً ثمينةً للوفاء بالتزاماتها المتمثلة في التعاون الكامل مع المحكمة ومع مكتبي).

وفيما أعتبر أن ( هذه لحظة  حاسمةٌ، كي يبرهن السودان، بعبارات لا لبس فيها، أنه قد أنصت إلى صوت شعبه، وهو يصبو إلى تحقيق العدالة)   رأى  خان أن (السودان سيثبت بذلك أيضاً أن آمال مجلس الأمن، الواردة في القرار 1593 في العام  2005، قد وُضِعت في موضعها الصحيح، وسيساعد بذلك على بزوغ فجر جديد لشعب السودان).

توقيع الحكومة (مذكرة تفاهم جديدة) مع مكتب المدعي العام الأسبوع الماضي (تشمل جميع الأفراد الذين أصدرت المحكمة أوامر بالقبض عليهم)  يمثل أحدث دليل على العلاقة  الجديدة بين الخرطوم والمحكمة .

ما جرى يُشكل حدثا غير مسبوق، ويأتي في إطار  جهود مبذولة،لتحقيق العدالة للضحايا والشعب، رغم أنها بطيئة الإيقاع.

خان كان وراء التوقيع على ( مذكرة تفاهم) إذ قال (في مناقشاتي مع السلطات والمعنيين الآخرين، طلبتُ إلى حكومة السودان مواصلة تعزيز تعاونها مع مكتبي، وشدَّدتُ على ضرورة ذلك، ،  وطلبت إلى الحكومة الانتقالية في خلال هذه الزيارة التوقيع على مذكرة تفاهم جديدة).

هذا يعني أن الحكومة الانتقالية ( الثانية)  تجاوبت مع ما طلبه مدعي المحكمة الجنائية.

مداولات خان في الخرطوم اتسمت بالشفافية ،  وفي هذا السياق أعرب عن  الارتياح  لمستوى التعاون  مُشيرا إلى  ( تقديري للمساعدة التي قدمتها حكومة السودان في دعوى علي كوشيب، التي تنتظر حالياً انعقاد جلسات المحاكمة، بعد أن نجحت الدائرة التمهيدية في اعتماد جميع التُهم في الشهر الماضي).

شفافية خان في الخرطوم لا تضاهيها سوى شفافية شخصين تحدثا باسم النازحين واللاجئين، في أثناء تنصيب  مني أركو مناوي حاكما لدارفور، عشية زيارة مدعي الجنائية إلى الخرطوم، و أرسل النازحون واللاجئون رسائل ساخنة  إلى الحاكم  ومسؤولي ( السلطة الانتقالية).

قال ممثلهم  (واجهنا قهرا داخل وخارج المعسكرات) و( نحن نفترش الأرض ونلتحف السماء) و( مطالبنا سلمناها لحمدوك عندما زارنا في دارفور)، و( نتساءل من المسؤول عن ما يجري في دارفور الآن ) و(مازال الاغتصاب والقتل مستمرا) و( نطلب السلام ، وحماية السلام) و(نطالب بالإسراع بتشكيل قوة  أمنية مشتركة  لحماية النازحين)، .

الرسائل  دعت إلى  ( محاكمة كل الموجودين في سجن كوبر)  و(ياحاكم لا توجد لدينا صحة ولا تعليم ولا خدمات) و(نطالب بإرجاع منظمات ُطُردت في فترة النظام السابق) و( نريد 80 في المئة وظائف للنازحين من وظائف تلك المنظمات) و(نطالبكم بزيارة معسكر زمزم) و(ندعو لوحدة الصف في دارفور والسودان)  و(نطالب بمشاركة أبناء النازحين في هياكل السلطة وأن يكون نائب حاكم إقليم دارفور من النازحين) .

ممثل اللاجئين أكد أننا (شعب مقهور وُطرد من دياره وانتقل إلى ديار بعيدة) ، و( نطالب رئيس مجلس السيادة والحاكم وولاة دارفور بالأمن، وعودة اللاجئين إلى البلد عاجلا)،  و(متمسكون  بقضايانا الأساسية وبالتعويضات) و( نطالب بنظرة خاصة للمرأة والطفل وقد تأثرا بالحرب، ونطالب بقوات دولية لحفظ الأمن في دارفور).

هذه الرسائل أعادت إلى الذاكرة تفاعلات زيارتي إلى معسكر أبو شوك في شمال دارفور في مايو 2009 ، إذ رأيت مشاهد محزنة بينها مشهد إمرأة ، أبكاني، وسجلته في مقال قبل 12 سنة.

  جاء فيه (من يجد في نفسه القدرة على حبس أنفاسه ودموعه في تلك المواقع يحتاج إلى جلسة حوار ومكاشفة مع نفسه في زمن انشطر فيه وجدان الناس) و ( هناك مثلا يمكنك أن ترى إمراة شاخت من كثرة ضربات الحاجة والاحتياج، وهي تبحث عن لقمة عيش أو قطعة خبز، وعندما تقترب من زائر مثلنا لا يملك سوى الوقوف على مشاهد الحزن والوجع الدفين، وتطلب منك كإمرأة حزينة موجوعة بصوت مبحوح أن تقول لهم ، أي لمن يوزعون الغذاء والدواء والماء” ساعدوني لأحصل على شيء من القمح”)

أشرت إلى أنني ( لن أنسى مشهد إمرأة كانت ” تقُش” ( تُنظف) الأرض بحُرقة لتجمع بعض حبيبات قمح، تطايرت في المكان، ومهما قيل من تفسيرات للمشهد، فهو يعبر عن سوء الحال، وكارثية الأوضاع ومأسويتها في معسكرات النازحين في دارفور).

الآن بعد تنصيب حاكم دارفور  وتدشين مرحلة الحكم الإقليمي كما جرى في  إقليم النيل الأزرق، وأيضا  إعلان (بدء الترتيبات الأمنية)  فان هناك ضرورات ملحة لإطعام الجوعى وعلاج المرضى واسكان من يسكنون في العراء.

هناك ضرورة لاستكمال عملية السلام مع( حركات  كفاح مسلح) لم توقع على اتفاق جوبا، إذ  أن الحلول الجزئية لا تحل مشاكل الحروب.

هكذا كان  رأيي منذ سنوات، وما زالت أكرره ، وفي هذا الصدد كتبت مقالا نشرته صحيفة ( الحياة) اللندنية  في    22 أبريل 2013 ، في إطار متابعتي لمفاوضات ( سلام دارفور) بالعاصمة القطرية الدوحة، ومشاهداتي لمسارها وتفاعلاتها ،إذ  كنت أعمل هناك، وتضمن  رسالة إلى ( الحكومة السودانية و الوسطاء ) مع إشارة إلى أن قطر بذلت جهودا إيجابية في هذا الشأن، وقدمت الكثير من المال، لكن نهج ( تجزئة الحلول) الذي كانت تُصر عليه حكومة الانقلابيين في السودان حال دون التوصل إلى حل شامل، يخاطب أزمة الحكم في السودان بمشاركة كل الأطراف.

قلت  في المقال إن على  (النظام  “نظام البشير” أن يعترف بفشله  بعدما جلس على كرسي الحكم بانقلاب عسكري أطاح حكومة ديمقراطية مُنتخبة، ولا يزال يحتكم إلى أساليب استبدادية ديكتاتورية تسببت في تدمير الاقتصاد، وتقسيم السودان، والأكثر ايلاما أن الانقلابيين أفقروا السودانيين، وأذلوهم وشردوهم في شتى بقاع العالم)

رأيت  أن (العلة تكمن في الخرطوم) وأن ( على الدول العربية والصديقة لأهل السودان أن تدرك أن استمرار مضاعفات الأزمات في بعض الأقاليم هو انعكاس لأزمة الحكم في الشطر الشمالي السوداني، وأن معالجة ذلك تتطلب مخاطبة جذور المشكلة، ومن دون ذلك سيواصل أهل السودان حصاد السراب، ويحصد من يؤازرهم بالوساطات أو المساعدات النتيجة نفسها) كما حذرت من ( الحلول الجزئية للمشكلات في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان).

هذا يعني أن تواصل  الحكومة  الانتقالية ( الثانية) السير على  طريق  السلام مع  حركات مسلحة ، لم توقع اتفاقات لإنهاء الحرب ، كي تسكت البندقية رسميا بالتوافق، دعما لحالة  التهدئة الراهنة.

مناوي  أمامه  فرصة تاريخية لخدمة أهله في دارفور، فهو صاحب سلطة وقرار وفقا لاختصاصات الحاكم وسلطاته، التي حددها  قانون نظام الحكم الإقليمي لدارفور لسنة 2021،  وتشمل (إدارة الإقليم ورعاية مصالحه وحفظ أمنه ، وتعيين مساعدين ومستشارين ووزراء الحكومة الانتقالية ) و(رئاسة الحكومة الانتقالية ولجنة أمن الإقليم).

الكرة في ملعبه وملعب قادة حركات دارفورية مسلحة، تحتاج إلى أن تتحول  وتتطور تدريجيا إلى أحزاب مدنية، وأن تُقنع أهل دارفور، بممارسة الشفافية والمساواة والعدالة ، لتؤكد عمليا  أنها ناضلت من أجل عزتهم وكرامتهم.

أمام مناوي  تحديات، بينها أن ( يجد قبولا وتفاعلا  شعبيا في الولايات)، وأن يضبط وحكومته بوصلة الخطاب السياسي  والاجتماعي ،كي لا يتسبب في استقطاب واستقطاب مضاد، وأن تتوافق مكونات  ( مسار دارفور) على تشكيل الحكومة الإقليمية، وتعمل بنهج جماعي.

من التحديات أن يعمل  الحاكم مناوي وحكومته  بتناغم،  وتنسيق مع الخرطوم ، وأن  تحترم  الخرطوم صلاحياته ،وأن يحترم  هو وحكومته صلاحيات ومسؤوليات الحكومة الانتقالية في الخرطوم، دعما للمؤسسية.

حكومة الخرطوم ، مدعوة،  إلى الإسراع  بعقد (مؤتمر الحُكم ) ليقرر بشأن (خيار الإقليم) في بقية (ولايات) السودان، لينسجم الحال مع   (إقليمي) دارفور والنيل الأزرق ، ولتعالج   مُفارقات  تحتاج إلى معالجات، بعد استكمال (مشورة ) أهل  (الولايات ).

برقية:

العدالة لكل الشهداء والجرحى والمفقودين والمظلومين أهم برهان يكشف  نجاح أو فشل  (السلطة الانتقالية) في تحقيق أهداف الثورة وتطلعات الشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق