ثقافة وفن

العذاب باعتباره حضورًا مباشرًا للموت … بين فوكو وأرسطو وابن سينا

محمد العيساوي

حينَ يسكن الألم الجسد يرفُض المرء التعايُش، وعندما يكونُ الألم في الذهن مثلَ روماتيزمٍ في غطاء الرأس، يكونُ الحِس الهجوميَّ كاسرًا، من الصعب ترويضه، وهو أكثر إيلامًا من ذلك الذي يُمزق لحمهُ من أجل الإحساس أكثر بأنهُ كائنٌ حي، في خطِ التاريخ، كذلكَ في سياق الأدب والواقع نشهَدُ أناسًا يتألمون، إذا ترجمنا الألم لما يقولهُ، تجريدًا من صاحبهِ، فهو الشعور بالانسحاق تحتَ طلب المُساعدة التي تفرُضها المِحنة الوجودية، لأنَ الألم يُغطي الذات حتى تُعلنَ حِدادها المؤقت، هناكَ عدد وافر من الأشخاص يأخذونَ مواردهم الداخلية ويسدونَ حاجة الخواء الباطني بما يعتقدونهُ لا ما يراه المُختَص أو الطبيب من عُقدٍ نفسية أو إرهاصات عصابية، برُغم تطور الطِب وعلم النفس وتزايُد المُسكنات، كذلكَ شيوعها في الأماكن التي تُباع فيها، يحتلُ مُسكنٌ هامَ في التاريخ والعقل أهميةً كبرى، “المسيح، الحُسين، الصلاة، القرآن، لوقا”.

العذاب باعتباره حضورًا مباشرًا للموت:

وإلا فإنه يصبح غير قابل للتعقُل ويدخل الفوضى للوجود، وحينَ يُعلن الألم عن نفسه للمرة الأولى لا يتَصور أحد أنهُ في مطلع تجربة لا يعلم مخرجًا منها شهورًا أو سنوات بعد ذلك، إن ألمًا غير قابل للعلاج، يُتابع وجودهُ يومًا بعد يوم، هو صورة للا مُحتمل، فوسائل الطب تغدو عاجزةً أمامه، والمَوارد الثقافية والشخصية تغدو غير ملائمة، وقيمُ المجاهدة والصبر تتحطم شيئًا فشيئًا أمامَ عذابٍ أليم يفشل الأطباء في وقفهِ، بالرغم من فحوصهم ومؤهلاتهم، يُحس المريض نفسه معزولًا لأنهُ يجد نفسه وحيدًا أمام تجربة تفككهُ ولا يملك أحد نصائح أو مساندة إزاءها.

الألم المُزمن، مثل أي مرضٍ طويل الأمد، يرمي بالشخص خارج الرابطة الاجتماعية، بوضعية اعتبارية صعبة؛ لأن ذلك الشخص يُصبح محرجًا بهمومه التي لا تنتهي، ويجعل مخاطبيه عاجزين أمام محنتهِ، تندرج تجربة الألم، بالكثير من التوتر، داخل نسيج عائلي، وهي تتطلب التضامن وتبني إيقاعًا تكونُ سرعته نابعة من الشخص العليل.

الألم يحبس الزمن ويحرم الفرد من توقعاته ومن مفاجآته، ويرسم سياجًا في الزمن عليه، مع الإحساس بأنهُ متورط فيه بشكل نهائي حتى لو استمر في الصراع والبحث عن حلول، الفرد هُنا يوجد في فوضى الزمن، وهو لا يوجد في المُدة الزمنية وإنها في الاستمرار المُلحّ للألم، إنهُ يرى نفسه محروما من المستقبل، محكوما بتكرار الشيء نفسه، العذاب يُجمد سيولة الزمن ويمنح الإحساس للفرد بأنه يوجد أمام جدار من العجز، والفُقدان يكون ألماً مسبق، أي الوجود يُضفي عليه النقصان الحاضر طابعًا مثاليًا.

الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، أثناءَ بحثه عن التشكُلات اللحظية للشيء، لاحظَ أنَ في نهاية القرن الـ18 أنَ المرض انفصلَ عن رؤية الميتافيزيقية لهُ، كذلكَ انفصلَ عن كونهِ شرًا أو مسًّا، كتبَ ميلان كونديرا: “الشخص الذي يتعرضُ للعقاب لا يعرفُ سببَ عقابه، فعبثية العقاب لا تُحتمل إلى حد أن المُتَهم لكي يعثر على الأمان عليهِ أن يُبرر مُصابه، لأن العقاب عادةً يبحثُ عن الخطيئة”.

– ﴿حيوانية الجنون عندَ ميشيل فوكو﴾

يرى ميشيل فوكو أنَ التاريخ البشري ليسَ خاليًا من الحيوانية الداخلية، فهُناكَ علاقٌة طردية بين الإنسان والحيوانية: “ليسَ في ذاتها، بل في بيولوجيتها المُرتبطة” في القرون الوسطى وهي قرونٌ صعَد فيها الحيوان العنيف حتى تلاشَت ظروف الرَحمة أو حُب القريب أو الاستغناء عن العُنف بل شَمِل العدلُ القانونيّ عنفه كذلكَ ووصلَت الوحشية لأكثر الكراسي الحاكمة بالقِسط و الاعتدال، كانَ فتكًا يُضاهي الجُذام المُتفشي، فقبل البدايات الأولى للحركة الفرانسيسكية: “حركة الانحياز للفُقراء”، وبعدها بزمنٍ طويل، وعلى الرغم من وجودها، هي علاقتهُ المخيالية بالقوى المظلمة للشر، وعكسَ الإنسان هذا الرابط، في مرحلتنا هذهِ، على شكل موضوعيةٍ طبيعية: هي في الآن نفسه تراتبية وتنظيمية وتطورية، إلا أن الانتقال من الرابط الأول إلى الرابط الثاني تَم في الفترة الكلاسيكية عندما نُظِر إلى الحيوانية باعتبارها حالة سلبية، حالةٌ شرانية أو هي انعكاسٌ لوحشية الدُب، وأنياب الذئب ومخالب القِطط الهاشمة، ولكنها طبيعية: أي في الفترة التي لم يعُد الإنسان يشعر فيها بعلاقته بالحيوان إلا ضمن الخطر المطلق الذي يمثلهُ جنونٌ يحطم طبيعة الإنسان ضمن لا مبالاةٍ طبيعية.

إن هذه الطريقة في تصور الجنون الي يُدلي بها فوكو هي الدليل على أن رابط الطبيعة الإنسانية في القرن 18 ذاته لم يكُن بسيطًا ولا مباشرًا، لقد كان يمرُ عبر أشكال النفي في حالاتهِ القصوى ولقد كان على الثقافة الغربية أن تربط تصورها للجنون، كما فعلت ذلكَ من قبل “يقصد الحركات التنويرية من جانب اللاهوت والماديين”، بالأشكال المخيالية للروابط الموجودة بين الإنسان والحيوان، ومنذ الوهلة الأولى لم يكُن ارتباط الإنسان بالطبيعة وبحكمتها ونظامها أمرًا بديهيًا: لقد كانت هذه الفكرة متأخرة جدًا، وظلت هامشية في الثقافة، وربما لم تستطع لحد الآن التسرُب كثيرًا إلى الفضاءات العميقة للُمخيلة، فالحديث عن الجنون، من المعقد أن يكونَ حديثًا اجتماعيًا يلازمه تهذيب التوصيف أو المُكاشفة التي تختصُ بفتح نوافذ مُتبصرة، خصوصًا في مجتمعاتنا العربية المُتحفظة، وسيكون في واقع الأمر سهلًا، لمن يريد التأمل في الإنسان والحيوان بشكل صاحٍ، إدراك أن الحيوان ينتمي إلى الطبيعة المُضادة، إلى سلبية تهدد النظام وتهدد بهيجانها الحكمة الإيجابية للطبيعة.

في العلم الحديث أو الفلسفات الجديدة، قَد تغير مضمون الصيغة اللغوية للحيوان العاقل: لقد اختفى نهائيًا اللا عقل الذي كانت تشير إليهِ باعتباره أصل كلُ عقلٍ ممکن، حينها كان على الجنون أن يخضع لحتمية الإنسان منظورًا إليه باعتباره كائنًا طبيعيًا في حيوانيته ذاتها، وإذا كان صحيحًا أن التحليلين العلمي والطبي للجنون كانا في العصر الكلاسيكي، يرغبان في إدراجه ضمن الميكانيزم الطبيعي، فإن الممارسات الواقعية التي تهم الحمقى تشهد، بشكلٍ كاف، على أنَ الجنون نظر إليهِ من زاوية كونهُ عنفًا صادرًا عن طبيعةٍ مضادة للحيوانية،ففي جميع الحالات، فإن الحيوانية الجنون، هذه هي التي يستشيرها الحجز والمُطاردة والمُباغتة والخوف، يُجاهد هذا العَصر في الوقت ذاتهِ من أجل تجنب الفضيحة التي تُثيرها لا أخلاقية اللا معقول، وهذا ما يكشف عن المسافة التي تأسست في العصر الكلاسيكي بين الجنون وبين أشكال اللا عقل الأُخرى، حتى وإن تم الخلط بينهُما من زاويةِ نظرٍ ما، فإذا كانت منطقة من اللا عقل قد أُسكِتَت، وتُرك الجنون يتكلم بحرية لغة الفضيحة، فما هي الدروس التي يُمكن أن يعطيها الجنون ولا يستطيع اللا عقل إعطاءها؟ هذهِ من أجدر ملاحظات فوكو، ما فحوى ذلك السخط، وذلك السُعار الذي يصدر عن الأحمق، ولا تعثر عليهِ في كلماتٍ معقولة صادرة؟ لقد بقيَّ فوكو مثلَ كوتيل و شوبنهور يتسائل: أين تكمن مواطن دلالة الجنون؟

في القرن الـ 18 شيعَ أنَ للمجنون خاصية الاستعارة المُفرطة، فهو يرى العالَم الأعمى لا ينتصرُ عليهِ رُغم اندثاره كأيّ كائنٍ آخر تجاهَ التحلُل، فلا يَثق بالاختصاص الطبي ولا ينتمي لحقول الإصلاح، والحيوانية المُنفلتةُ من ميدانها، العائمةُ بالا معقولٍ قَد صارت مُندفعةً تجاهَ الترويض والتهديد، هذهِ الخاصية ظهَرت بقوة بينَ الأوساط المنزلية والكَنسية إبانَ القرن الـ18 ففُرِض على المُستَلب أن يكونَ طيِّعًا للكدمات والضرب والسوط، يستشهدُ بينال الذي يعتبرهُ فوكو أحد مصادره، يذكُر حالَ “مؤسسة كنسية مشهورة في الجنوب الفرنسي” كانَ يُجبر فيها الأحمق المجنونَ غريب الأطوار أن يكون عكس حالتهِ، يُنَصَح بالتغيُر من سلوكه فإذا رفضَ عوقِبَ وانمحقَ في غرفةٍ عن العالم الخارجي، فإذا قامَ برفض الاستحمام والأكل والشُرب فيُنَذر بعقابٍ يأتيه غدًا، إما بالجلد أو تقريض أطراف الأصابع، وإذا كانَ طيِّبًا في تعامله، ليسَ هيّاج التصرفات فإنهُ يودَع مع شخصيات عاقلة ليشاركهم الطعام والملبس، رُغم ذلكَ التدجين، يبقى حُكم الإنذارات ملازمًا إليه، فأفواه الإدانة تصرخ في آذانه، وأعين المراقبة تلمحُ كل تصرفاته، وفي كُل إقدامٍ لارتكاب خطأ يُهَدد بضرب أصابعه بواسطة قضيبٍ خشبي مُبَلل.

إذاً بماذا يُخبرنا الجنون؟ أنهُ يقول لنا لا يُمكن التحكم بالروح الحيوانية المُتحررة من كُل القيود إلا من خلال الترويض والمُراقبة والمُعاقبة، وهذا الجَدل الغريب في الممارسة قد يُسمى لا إنسانيًا، فليسَ الهدف من العقاب تقليص الحيوانية ودفعها تجاهَ الإنسانية، بَل بالكشف عن هذهِ الحيوانية، إذاً فالجنون هو الفضيحة الحيوانية التي أطاحت بمثالية “الإنسانية”، وداخلَ هذهِ الأسرار يُمكن معرفة غولنا المُحتَجز في أعصابنا وأيادينا وصدورنا، في حالات الهوس يُسجل بينال مرةً أُخرى ملاحظات عن رجُل يُدعى غريغوري كانَت بُنيته الجسمانية ضخمة، يُشبه هرقل حامل العصى، كانَت لديه أساليب في المُعالجة يكمُن في فرض الأعمال الفلاحية القاسية على المجانين والمُستَلبين، ويستخدم بعضهم ممَن اشتَدت حالهم كحيوانات، وإخضاعهم بالضرب عندَ أدنى محاولة للتسكُع والهَرب.

إذاً ماهو الجنون؟ أسألُ مرةً أُخرى، إنَ في طور تحوله إلى الحيوانية وتجاوزه القيِم البشرية والأخلاق يجد شفائه بعيدًا عن تلكَ الأخلاقيات، ففي اللحظات، الأيام، الأسابيع، التي يتحولُ فيها المجنون إلى بهيمة، و يجيءُ الحيواني إلى الداخل، يفضحُ بجنونه هذا، الإنسانَ كاملًا، ينمحي الحُس البشري، يُفنى التأطُر ويموت لوقا، وتُسَخف الصلوات المُنقذة، إن الجنون هو الدابة التي استلبها الدين وحاولَ إبعادها الآلوهيينَ عن الإنسانية، فهيّ لم تخمَد، بل تختفي لفترة وتُعاود الظهور حتى لو كانَت البيئة مُستقرةً تمامًا.

بالرُغم من وجود باسكال اللينسيني “وهي حركة ظهرت في القرن الـ17 يتظاهر أصحابها ضد رجال الدين وضد السُلطة اللا هوتية”، وبالرُغم من وجود الكنائس والمسيحية، كانَ الجنون حاضرًا رُغم كُل ذلك، فلَم يكُن الأمر متعلقًا فقط بمُطالبة العَقل بالتخلي عن الكبرياء المُقدَس أو الكبرياء المُحافظ من قِبَل الفلاسفة حتى يضيعَ في اللا عقل ويفهم حيوانيته، فعندما تنِصُ المسيحية في حديثها عن الجنون الصليبيَّ اليسوعي فهيّ تفعلُ ذلكَ نكايةً بالعقل، وتضع لهُ الحقائقَ الوجدانية والكونية على طبقٍ من اللا عقل، إذًا لقد كانَ الله في المسيحية مجنونا ينبعث نحو الداخل بطريقةٍ سالبة، فالعالَم يريد أن يُصبح مسيحيا حتى يتخلى عن اللا عقل تارةً ثُم يعاود جنونه تارةً أُخرى، إنهُ فصام الله الأشنع، ماذا قال باسكال إذاً؟ “لا تتعذبوا لأنَ صليبكم الذي أخضعَ الكون لكُم سيكون هو الجنون وفضيحة للعقول المُتعجرفة المريضة”، أما الآن في هذهِ الأيام يرفض المسيحيون عادةً اللا عقل المسيحي ويُلقون بهِ على الهامش، فنحن كما يقولُ ساخرًا فوكو، بحاجةٍ أُخرى إلى نيتشه ودوستوفيسكي حتى يظهر الجنون بشكله الحالي، وأين يختبئ بعيدًا عن ماهو في رؤيتنا معقولًا،

﴿ابن سينا ومصدر الجنون، مسائل أرسطوطاليس﴾

يُقسِم ابن سينا “المُلقب بأمير الأطباء”، الأمراض المُسببة لحدوث الاضطرابات العقلية إلى ثلاث مجموعات، تأتي في المجموعة الأولى حالة إلتهاب المُخ وهو ما يُسبب “الهياج”، تسميتهُ كانَت مـشاعةً تحت اسم “التهاب الدماغ”، تحدثَ في هذا النوع ابن سينا، واصفًا فورات غضبه بأنها تصطحبُ معها هوسٌ مُفرط واهتياج، ثمَ تأتي في المجموعة الثانية خلل في القُدرات العقلية مثل تلف المخيلة، الهوس الدائم، السوداوية العارمة، والذئبية، والحُب “ابن سينا” كانَ يراه أحد أشكال المرض، ورد ذلكَ في العصور القديمة كذلك، كما عندَ أطباء مِصْر”، أما في المجموعة الثالثة “مُسببات اختلال الحركة” مثلَ الصرع والدوخة الدائمة، عندما نراجع أمراض العصور الوسطى نجدها من الفئة الثانية.

بعد نَشر النسخة المترجمة من الكتاب المعروف “مسائل أرسطوطاليس الطبيعية، الجزء ۳۰” في القرن الثالث عشر الميلادي لمؤلفه الفيلسوف أرسطو، وهو الكتاب الذي يذكُر فيهِ أن أصحاب العقول العظيمة الذين يتميزون بالتفكير الخلاق والإبداعي هُم من ذوي المزاج السوداوي، ازدهرت السوداوية في الغرب إبان العصور الوسطى، وصعَدت فائرةً إلى قمتها، وذلك بعد أن كانت قد نالت اهتمامًا كبيرًا من قبل الأطباء والفلاسفة العرب، وبدأت السوداوية المرضية “الملنخوليا” تحتلُ، أكثر فأكثر، مكانةً متميزة في ساحة الاغتراب العقلي “اللا عقل”، خصوصًا أن مُفكّري وفلاسفة العصور الوسطى كانوا يميلون إلى البحث عن الأسباب والتشخيصات أكثر من الأعراض.

طِبقاً لذلكَ، ونظرًا للدور المُتوسِع الذي لعبهُ الطب العربي وجالينوس، في العصور الوسطى التي صَعدت فيها المسيحية، تمَ ابتداع شيء خاص، وهو إحياء الحوار بين الطب والفلسفة، فيهِ تمَ الاستناد على علم خصائص الشخصية إلى مبادئ نظرية الأمزجة وارتباطها بالأخلاط، يزعم أرنو دي فيلنوف (۱۲۵۰-۱۳۱۳)، وهو مُعرَوفٌ  بصفته طبيبًا خاصًا بالملك أراجون وللبطريرك ومترجمًا للمؤلفات من اللغة العربية، يستَند في بحوثه بأنَ المزاج هو العُنصر الجسدي الأكثر قُدرة على تهيئة ظهور حوادث النفس، هذا ما اتفقَ أفلاطون وجالينوس فيهِ، كذلكَ أُضيفَ إليهِ أن حوادث النفس يُمكن بدورها أن تؤثر سلبًا على المزاج، لا يُمكن إنكار ما أوْلتِ العصور الوسطى إليهِ وهيّ “الأرواح” التي احتَلت أهميةً خاصة، تلك الانبثاقات الخفيفة والرقيقة التي تحمل “النفحة”، وفقًا للمُصطلح المُستخدم في الفلسفة الرواقية والتي تُشكل جوهر الحياة والشعور “حيث تعمل بوصفها وسيطًا بين النفس والجسد”، كما احتَضنت العصور الوسطى الكيفية التي تتوزعُ بها الروح داخل الجسد، بيد أن علماء اللاهوت في أوقاتٍ متأخرة وضعوا حدًا لهذا النمط من التفكير، حَسَمَ جيوم دو سان تييري راهب من سيتو ومؤلف صوفي ظهر في النصف الأول من القرن الثاني عشر هذه المسألة بتصريحٍ صدمَ اللاهوتيينَ آنذاك: “إن السمات الطبيعية المُتعددة للإنسان، سواء أكانت حيويةً أم حيوانية، ليست هي الروح، لم يعُد يوجد ما يسمى بمرض الروح “بالإشارة إلى العصور القديمة”، بما أن الروح غير مادية وغير قابلة للفساد”، وإذا بدا أن الروح يشوبها خللٌ ما في قدراتها أو ملكاتها، فهذا يعني أنها غير قادرة على تملُك زمامَ الجسد بإعتبارهِ الأداة التي تظهر من خلالها هذه الملكات، وبغية تفادي إثارة استياء وغضب الكنيسة، تجنب الأطباء طرح مُشكلة الروح في السياق الطبي، لأنَ ذلكَ يؤدي إلى المُطاردة والقتل في غالب الأمر.

(٭ نقلًا عن المحطة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق