آراء

وشي للحنين (2/2)

عبد العزيز كوكاس

بالأمس كنا نحضن الأشياء بصدق العاشقين، نهرب أحلامنا الصغيرة إلى الظل، نربيها على حرير أيدينا ونعدها على أصابع من نحب، ثم نصغي لصوتها القادم من كهوف بعيدة، كأنها أصوات الأزل.. اقتنعنا بسذاجة، بكوننا نملك سر الينابيع وفطرة الفراشات التي تفجر الحنين في الأزهار، مثل الشموع المضيئة كنا، وبذرة الحياة تختمر فينا مطرزة بحرير الحلم وعرق السواعد المشمرة لزرع حبة أمل.. كان للشوك ملمس الحرير تحت وجع أقدامنا ونيران الدروب الموجعة بردا وسلاما على أرواحنا، لأننا أسكننا الكون أعراسا ورؤى، وخبأنا في طرف الشمس مدائن وأسرار وكوّمنا في الأفق مطرا طاهرا يغسل به الجناة والجلادون سيوفهم من أثر دمائنا، كنا نسارع الخطو في بحر الأزمنة دون الوصول إلى عتبة واحدة من الأمكنة المشتهاة، لأننا سرنا إلى الحياة مسندين جباهنا إلى موت أجلّ.

ظللنا نكابر دفاعا عن وهم خيوط شمس ناعمة تدخل دروبنا العتيقة لتلامس الأجساد المسهدة وتمدنا بالدفء في ظل فراغ مهول للسياق التاريخي.. كنا نبتهج بالقليل، ولا نتساءل عن القسمة الضيرى، وكلما حل الصيف، اغترفنا الحكايا والماء المستحيل من أوراق الشجر وفخذ النساء.

كنا نكدس سنابل الفرح الذي لا نسرفه كثيرا في مواسم الحصاد، لليالي العجاف وأيام الهلع.. نقيم المودة بكل التقسيط المريح مع ما يشاكس رغباتنا، ولا نترك فرصة للتجاعيد كي تصدح بركام العمر المتعب.. حتى خصوماتنا وشجارنا كان مثل بوح العصافير.. مثل بقايا عصر بطولي نبدو الآن، متضخمين في كل شيء: قاماتنا، شراهتنا وهواجسنا، خيباتنا وأحزاننا، فيما أصبح العالم الذي نقيم فيه ولا يقيم فينا، في قمة سلم التمدن الحضاري، “قرية صغيرة” تضيق عن الحالمين والتائهين.. مثل النسور كنا، نشتهي أعالي الأماني لا المواقع، اللاحد نربيه، نوسع به حدقة أعيننا من أجل الآخرين، كنا مستعدين لنختصر فسحة عمرنا لنحافظ على شمس البسمة في روابينا. نحلم ونحلم ونحلم، وحين نفتح أعيننا من جديد ونبذل قصارى جهدنا لنرى بقية الحلم.. آه كم كانت أحلامنا بريئة وكانت الحياة أبهى.

لماذا لم يعد يجرفنا الحنين إلى بهاء الغامض فينا؟

بار زمن المعجزات ولم يعد هناك ما يفاجئنا.. نزفت أحلامنا كالجرح في جسد الريح، هزلت أمانينا وأصيبت بالكساح، ولم تعد أحصنة الخيال تملك نفس الجموح، ضاع صهيلها الذي كان يزهو في الآفاق، متموجا مع الريح مثل زغرودة فرح الفاتحين.

ذهب عمرنا سريعا في اتجاه مضاد لرياحنا المشتهاة، ولم نستطع اللحاق به، ولا بقينا في الميناء حيث ودعناه، لنستدفئ بأمانينا عنه وبالذكريات الخوالي.. اهترأت ساعاتنا وحرقة اللوعة لغيوم بعيدة، وفجأة انطلقت في غفلة عنا جحافل الوحوش التي احتجزها تهذيب الطبيعة البشرية لقرون. صحيح أننا أصبحنا ندرك الفروق الدقيقة أكثر: الغيوم العشرة المنتصبة فوق رؤوسنا، الكرسي الذي يهتز كلما افتقد شهوة الحنين، المقبرة العتيقة التي تستقبل كل يوم موتى بلا عدد ولا حلم، والعرافة التي تقرأ الطالع على أكف الشواهد الباردة.. عود الثقاب النائم في سرير الزحام، الأشجار المحزوزة الأعناق، المشانق المحلاة بدليل إشهاري، المصعد الإلكتروني والشبكة العنكبوتية..

لمَ ننوء بثقل كل آثام الوجود ونبتلع الأحزان كأدوية مرة؟ نحتفي بالفوضى المنظمة وبالشك في نجاعة وعود الربيع..

“ما أصعب ما نطلبه من هذا العالم”، ليتنا.. ليتنا لم نكبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق