سياسة

خارج المتاهة

إلى حمدوك والمجلس المركزي

محمد عتيق

  لن نتحدث عن العدالة ومؤسساتها ولا عن حقوق شهداء الثورة وجرحاها ومفقوديها علينا (على الثورة ودولتها) ، ولن نتساءل عن التساهل المُخجل مع أركان النظام الساقط ومناشطهم أشخاصاً وأجهزة إعلام ، ولن نسألكم عن استمرار البرهان رئيساً للمجلس السيادي بعد مايو ٢٠٢١ و “نائبه الأول” ، وتصرفاتهما كمؤسسةٍ رئاسية لجمهوريةٍ عسكرية ، ولا عن “الجنجويد” وما يمارسه علناً في تملُّق المجتمع في شقِّهِ التقليدي ، ولا عن دور أجهزته الامنية القمعية مع الشباب ولجان المقاومة ، أو حول التمدد (غير السرِّي) بتأسيس وتطوير الأفرع العسكرية لقواته في استعداد مكشوف لإقامة سلطة عائلية عنصرية في بلادنا ، وفي تجنيد الشباب السوداني إلى صفوفه …الخ ..  فكل تلك المسائل – كانت ولا زالت – رهينة الاستعمال المسؤول للشرعية الثورية والتفويض الشعبي غير المسبوق(بمعنى الكلمة) للسيد حمدوك رئيساً لحكومة الثورة .. أمّا وقد فرَّطْتُم فلا أقل من سؤالكم : ماذا يستحق شعبٌ بالمواصفات التي تعرفونها وقام بمثل هذه الثورة التي فغرت لها أفواه البشر والتاريخ ؟ ، دعونا من حديث المبادرات واحتفالات التوقيع على مواثيقَ مع الذات وغير ذلك من الأفعال التي تعرفون ونعرف ويعرف شعبنا كله أنها أمورٌ انصرافيّةٌ ومجرد قفزاتٍ إلى الأمام دون تبصُّر ..

دعونا نسألكم: ألا نستحقُّ حياةً كريمةً مليئةً بالسعادة والتفاؤل ، مستوىً من المعيشة يفوق فيه الدخلُ على المنصرفات بصورةٍ واضحةٍ تساعد على ألإدِّخار  ؟؟ ، سؤالٌ يقوم على معرفةٍ بإمكانيات بلادنا ومقدراتها ، فالسؤال إذاً سؤال معاشٍ  ومستقبل ، سؤال اقتصاد :

في تعاملكم مع المجتمع الدولي ومؤسساته المالية والاقتصادية ، خضعتم لشروط تلك المؤسسات بتعويم العملة الوطنية وتحرير التجارة ورفع الدعم عن السلع الاستراتيجية (رفع يد الدولة عن كل مسؤوليةٍ تجاه الشعب والمجتمع) ، وهي السياسة التي جلبت للشعب ضيقاً على ضيق ومسغبةً على مسغبة مطلوباً منه الصبر (للأبد) مقابل وعودٍ (كالسراب) دائمةٍ وكاذبة ..

لماذا لا نطلب من العالم ومؤسساته ألتعامل معنا بشروطنا المؤسَّسَة على حقوقنا المشروعة ، أن نجبرهم على ذلك ونتمترس في موقفنا : لماذا نُجَرِّد دولتنا من كل امكانياتها بعزلها عن كل نشاط تنموي ونترك إقتصادنا للعالم وللطفيليات المحلية والإقليمية تديره ، تزيد عروق شعبنا جفافاً على جفافها ..

لا يختلف إثنان في أن مجانية التعليم والعلاج وجودتهما هي من أهداف ثورة شعبنا في ديسمبر ٢٠١٨/ ابريل/يونيو ٢٠١٩ ، وأنها من صميم واجبات الحكومة/ات الانتقالية.. وعند هذا الإقرار ينتصب أمامنا السؤال البديهي الأول : من أين للحكومة مثل هذه الأموال التي تستلزمها مجانية التعليم والعلاج وجودتهما ؟؟ وقد ظهرت نتائج النهج الذي انتهجته الحكومة على الشعب وحياته (ليس في شكل صعوبةٍ أو معاناة) وإنما استحالةٌ لن تؤدّي إلا إلى انفجار آخر للشعب وأجياله ضد هذا البؤس الذي تكالب عليه ، وأمامنا الآن مأساة الرسوم الدراسية التي وصلت أرقاماً باهظةً يعجز عن تسديدها أحد ..

التعليم في عهد النظام الساقط كان من مجالات الاستثمار الهامة التي ولجها أهل النظام وحلفاؤه ، ولأن نفوذ ذلك النظام لا زالت ممتدة في شكل دولةٍ موازية يشتدُّ عودُها يوماً بعد يوم ، تمكَّنَ من إيقاف السياسات التي بدأها البروفيسور العالم محمد الأمين التوم لجعل التعليم إجبارياً وإلزامياً بمعاونة المناهج الجديدة التي بدأ الدكتور عمر القراي في صياغتها كأساسٍ جديدٍ تنشأ عليه الأجيال السودانية المقبلة ، وكان خلفهما مجموعات من الخبراء التربويين كمستشارين ومساعدين .. تمكّن نفوذ النظام الساقط المتحالف مع منهج “التحرير” الاقتصادي من إيقاف تلك السياسات وإقصاء الرجلين من موقعيهما  وعودة الأمور إلى ما كانت عليه المدارس والمناهج ليبقى التعليم مجالاً للاستثمار الشرس وتستمر المناهج في تفريخ الجهل والقدرات الهزيلة .. ونفس الشيء في مجال الصحة والعلاج وتخلُّفها وتكاليفها التي تتسبب في وفاة العاجزين (وهم الأغلبية) بالمئات يومياً في منازلهم وفي ردهات العيادات والمستشفيات (الخاصة) وأمام أبواب الصيدليات ..

كيف ستتمكّن الدولة السودانية من تحقيق مبدأ الثورة الأهم في مجانية التعليم والعلاج للشعب كله إذا لم تتوفر لها مداخيل مالية  كبيرة تُمكّنها من الانفاق على المدارس : مناهج جديدة بكتبها – معلمين مؤهلين أعطيتهم تكون من بين الأعلى في المجتمع …. وعلى العلاج : مستشفيات مؤهَّلة بكل ما تستحدثه العلوم في الطبابة والرعاية الصحية – وأطباء وفنيين وكوادر صحية مساعدة بمرتبات عالية تؤمِّن لهم (كما للمعلمين)الحياة اللائقة التي تجعلهم ينصرفون إلى مهامهم بتركيزٍ تام ومشاعرَ إنسانية راقية ..

ولن يتمكن السودان من ذلك إلا إذا انتهج منهجاً آخرَ في تعاطيه مع المجتمع الدولي.. فالتعامل مع العالم ومؤسساته مطلوب ومهم ، ولكن باستقلالية تضع مصالح الشعب ومستقبله نصب العين في كل اتفاق مع العالم ، وتحديداً يجب على الدولة السودانية أن تتحكّم وتسيطر على مواردها الطبيعية كلها عبْرَ مؤسساتٍ متخصّصةٍ تقودها الدولةُ بخبراء وموظفين وعمال وطنيين تُجْرِي عليهم المرتبات المجزية والتأهيل والتدريب (وإعادة التدريب) الدائمين :

– للأقطان وللصمغ وللحبوب الزيتية وغير الزيتية : زراعةً وصناعات وسيطة وتحفيزَ مزارعين  وتسويقاً ..

– للمواشي : إكثارها وتخطيط مراعيها والإشراف الصحي عليها ، وإنشاء المسالخ الحديثة للصناعات الوسيطة ..الخ

– للذهب والمعادن المختلفة : بالهيمنة على تنظيم مناشطها وإقامة البورصات المتخصِّصة …الخ

– وفتح المجال أمام الاستثمار المحلي والأجنبي تحت إشراف الدولة وقوانينها التي تراعي مصالح الشعب وتضمن مداخيل كافية للدولة من خلال الضرائب والمكوس ..

بمثل هذه الإجراءات وغيرها تستطيع الدولة أن تقوم بواجباتها في توفير التعليم على حسابها بأجود ما يمكن استثماراً في إنسان المستقبل ودوره في نهضةٍ عملاقةٍ لبلادنا ، وتوفير علاجٍ مجانيّ وأيضاً بأحسن المستويات صيانةً ورعايةً لروح ذلك الإنسان المنشود للانطلاقة والرقيّ ..

اذاً ، ليس أمامنا إلا أن نؤسس مثل تلك المؤسسات والبورصات ونتقدم بها للمجتمع الدولي ليساعدنا في تعظيمها بالاستثمارات الموازية والمكمِّلة بشروطنا وقوانيننا التي تضمن حقوق شعبنا ووطننا ، وتصون للمؤسسات والشركات الأجنبية العائدات المجزية أيضاً من استثماراتها …

فلنجعل من “مجانية العلاج والتعليم وتأسيس دولة الرعاية الاجتماعية” جزءاً من مشروعنا الوطني ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق