ثقافة وفن

لا معارك خاضوا ولا وعيا زرعوا ولا أشعلوا شمعة تضيء طريقنا

هل تضع جائحة كورونا حدا لهيمنة التافهين والرديئين الذين تسيدوا؟

عبد العزيز كوكاس

لسنا استثناء بين الأمم، لذلك شملنا ما غمر العالم المعاصر من تفاهة و”ميديوقراطية” حيث ساد السحرة الجدد من أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين والمحللين الجدد من الإعلاميين والأكاديميين الذين يقولون الشيء ونقيضه بدون أن يرف لهم جفن، بعد أن هدموا “الأصنام” الكبرى من النماذج الإيجابية للعلماء، من المثقفين والسياسيين والمفكرين والنخب الفاعلة في شتى المجالات، فبعد هجمة التقنوقراط، صرنا أمام هيمنة الضحالة بشتى أنواعها من السياسة إلى الإعلام، في كل مجالات الحياة نبت التافهون مثل الفطر وتسيدوا، لم يبقوا على هامش حركية مجتمع بل أصبحت لهم الأفضلية على الكفاءات وصانعي الرأسمال الرمزي لهذه الأمة.

كان أرسطو يقول بحكمة العارفين: “إن الرداءة حين تتكاثف تتحول إلى قوة”، هو ذا ما نعيشه اليوم، لقد هيمنت الرداءة والاضمحلال من حولنا حتى تحولت إلى سلطة قوية ذات مناعة لا توصف، باعتبارها كيانا قائم الذات يفرز يوميا بيننا فقاعات مثل الصابون، في الغناء والموسيقى والرقص، في الصحافة ووسائط التواصل الاجتماعي، في السياسة والمجتمع كما في ظاهرة “روتيني اليومي”… هؤلاء “الخبراء” الجدد يحضرون حيثما كانت هناك كاميرا وميكروفون، يدلون بدلوهم كيفما اتفق، يُتفهون الجاد ويجودون التافه، أو يعتمدون على جهلهم وأمية متلقيهم ويستعرضون أجسادهم ويقذفوننا بلغتهم الساقطة.. لكن حذار من الاستهانة بقدراتهم في معرفة ما يريده عامة الناس الذين ضاقت بهم سبل الحياة ولم يعودوا يبحثون سوى عمن يسلّيهم ويستجيب لرغبات دفينة في لاوعيهم ولو عبر السخرية من أنفسهم حتى، إنهم مرآة مجتمع جديد انهار نظامه التعليمي وعزلت مؤسسات التنشئة الاجتماعية نفسها أو عُزلت، وتم تسديد الضربات الموجعة للنماذج الإيجابية للنجاح بعد تبئيس المعلمين والأساتذة، وشيطنة الأطباء والممرضين والقضاة والنخب النيرة، واستخدام معاول الهدم اتجاه الأسماء والرموز التي شكلت أساطير دافئة لأجيال..

يقول آلان دونو أستاذ الفكر النقدي في العلوم السياسية في جامعة مونتريال بكندا، المنظر بحق لما أسماه نظام التفاهة في كتابه الشهير “la médiocratie”: “ينزل الفيلسوف سِيلْس Celse منزلة تافهة، لكن الكبار يطيقونه: هو ليس بعالم، لكن له صلة بالعلماء؛ لا حظوة له، لكنه يعرف أشخاصا لهم من الحظوة الجم الغفير؛ إنه غير حاذق، لكنه يمتلك لسانا قد يصلح ترجمانا، ورِجلين تستطيعان حمله من مكان إلى آخر”. حينما صاروا سادة، فإن أمثال سِيلس هذا العالم لم يعد لهم ما يقلدونه سوى أنفسهم، إنهم يكتسحون السلطة شيئا فشيئا وتقريبا في غفلة منهم. من شدة التحكم والمحسوبية والمجاملة والتواطؤ صاروا على رأس المؤسسات. من قدر كل جيل أن يندد بالظاهرة من حيث أنها تتفاقم، تشهد على ذلك دفاتر الشاعر لوي بويي التي يقتبس منها صديقه غوستاف فلوبير: “يا حُكم التفاهة المقيت، وأيها الشعر النفعي، وأدب البيادق والثرثرة الجمالية، والتجشؤات الاقتصادية، والمنتوجات الفاسدة لوطن خائر القوى، إني ألعنكم بكل ما أوتيتْ نفسي من قوة! لستُم الأُكال، أنتم الضمور المُهلك! لستم الخراج الأحمر الحار أوقات الحمَّى، بل أنتم الدمل البارد ذو الحواشي الشاحبة، النازل من سوس غائر كأنه من ينبوع”.

يفكك الفيلسوف دونو المجالات التي تعزز سطوة “الميديوقراطية” أو نظام التفاهة في العالم اليوم، حيث يهيمن الجهلة وأنصاف المتعلمين، ويصبح المثقفون فاشلون وانعزاليون، ويطفو إلى السطح البلهاء والسطحيون، ومن توفرت لهم مواهب “اللحظة الطائشة”، والقدرة على جاذبية الذباب في كافة المسارح، من السياسة إلى الاقتصاد فالإعلام.. أن تغرق الإنسان في أوحال التفاهة وأن تجعله ساعيا إليها بكل حرص ودأب دون وعي.

لقد هيمنت العقول التي تستطيع مخادعة الآخرين وتوظيفهم كرأسمال حيث يصبح كل شيء قابلا للبيع والشراء، بدءا من الإلاه وملائكته وجنته ونيرانه ومساجده وكنائسه ومعابده، مرورا بالهويات والمقدسات والقيم والأخلاق، نحن في المراحل المتأخرة من بيع كل شيء..

التافهون لا لون لهم ولا حزب يوحد خطابهم، ولا هدف لهم سوى الحظوة الآنية لا الخلود،  الربح السريع بأقل تكلفة لا العمل المنتج، التسطيح لا العمق، الإثارة لا التبليغ والإفهام… إنهم كسالى يعتمدون قانون الجهد الأقل، لا يهمهم تحقيق تراكم في المعرفة ولا توعية الناس ولا ترك أثر يترحمون عليه… ومع ذلك يمتلكون قدرة فائقة على التأثير والخداع وتهميش الكفاءات.. كل زمن كان له تافهوه، كل حضارة كانت تنتج إلى جانب عظمتها بعض أعطابها من توابل الطفيليين على أصناف المعرفة المختلفة والسحرة المشعوذين والمهرة الجدد البارعين في ثقافة الإسفاف والابتذال.. لكن التفاهة اليوم أصبحت مدعومة بوسائط الثورة الرقمية وتصل إلينا عنوة، تقتحم بيوتنا وحتى نحن نعتقد أننا نسخر منها ونضحك على أصحابها، نشد من عضدها ونسمح بانتشارها عبر هذه اللوغارتميات الذكية التي ترفع من شأن التقاسم والإعجاب دون أي رقابة أخلاقية على جودة المنشور.

مقادير وصفات التافهين أصبحت جاهزة: ادعاء أنهم صوت الشعب لا النخب المنافقة، وأنهم يتكلمون وفق ما يفهمه الناس وما يحتاجونه، وهم بحكم قدوم أغلبهم من طبقات فقيرة أو متوسطة الحال، قادرون على تجييش الرّعاع وتتفيه كل خطاب ينتصر للعقل لا للغريزة، وعدوهم الأساس هو النخب التي حازت لقرون موقع المتحدث باسم عموم الجمهور، ثم الحد الأدنى من المعرفة باستعمال تقنيات التكنولوجيا الحديثة، لقد أصبحوا يشكلون نسقا، يتوحدون في صنع لغته وأدواته وقيمه، هاجسهم النجومية السريعة الانطفاء والربح السريع دون إنتاج أو جهد..

لا أُدخل في زمرة التافهين ممن ينتجون السخافة من حولنا، ضحايا النظام التعليمي والجيل الجديد ممن لم يجد لنفسه موطئ قدم داخل تنظيماتنا السياسية والاجتماعية ولا في حضن الإعلام العمومي.. فما ينتجه هؤلاء هو تعبير احتجاجي مهما كانت بساطة اللغة والشعارات التي يعتمدها، علينا التفكير فيها بقوة والإنصات إليها بعمق، وإنما المشمول بنظام التفاهة لدي هم من غير المهمشين، إنهم هنا سادة لا عبيد، يستقطبهم الإعلام ولهم قنواتهم الخاصة، ونسبة متتبعين وزوار لا قبل لنا بهم، وآليات وعتاد ورموز وقيم بها يكونون، وبها يتسيدون.. لا يجب أن نستهين بكل هذه الرداءة المعممة علينا بالتقسيط المريح.. حتى أضحت سلطة قاهرة.. لكن مع أزمة كوفيد 19 لاحظنا تراجع منسوب التفاهة، لقد وجدنا أنفسنا أمام الموت وجها لوجه، وتقلصت مساحة حضور التافهين الذين كانوا يمطروننا بوابل من “ميديوقراطيتهم”، وسادت بدل ذلك سخرية أنيقة ومبدعة، وتوارى ولو لحين النجوم السطحيون، كنا بحاجة لكي نسمع الحقيقة على مرارتها بدل الأوهام، فهل يحين الجد ويخلد التافهون للصمت إلى الأبد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق