ثقافة وفن

ابن بطوطة في الشام … العصر الذهبي الأخير قبل غزوة تيمورلنك

ثمة إجماع في الأوساط البحثية على أن الرحالة المغربي ابن بطوطة هو واحد من أعظم الرحالة في تاريخ البشرية، حيث طاف بلدان العالم القديم أجمع، ووثق عادات وأسماء وتحولات تاريخية لم نكن لنعلم عنها شيئاً لولاه. وقد مر على بلاد الشام قبل إحدى زياراته لمصر، وقدم لنا شهادة ثمينة عن بعض أحوالها في أحد عهودها الذهبية، ونعني به عهد السلطان الناصر محمد ابن قلاوون، ونائبة كافل المملكة الشامية آنذاك الأمير تنكر. وذلك؛ قبل الانحدار المتسارع الذي بدأ بعد عقود قليلة، وتحديدا في عهد الظاهر برقوق، وغزوة تيمورلنك الماحقة.

ولد محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي في طنجة بـ المغرب سنة 703 هـ، 1304م، لعائلة عرف عنها عملها في القضاء، وقام بثلاث رحلات، استغرق في مجموعها نحو تسع وعشرين سنة، وكانت أطولها الرحلة الأولى التي زار فيها معظم نواحي المغرب والمشرق، وكانت أطول إقامة له في بلاد الهند، حيث تولى القضاء لسنتين، ثم في الصين، حيث تولى القضاء لسنة ونصف السنة، وفي هذه الفترة وصف كل ما شاهده وعاينه فيهما، وذكر كل من عرفه من سلاطين ورجال ونساء، ووصف ملابسهم وعاداتهم وأخلاقهم وضيافتهم، وما حدث في أثناء إقامته، من حوادث وحروب وغزو وفتك بالسلاطين والأمراء ورجال الدين.

وفي فاس، أعجب سلطان المغرب أبو عِنان فارس بن علي، بأوصاف البلاد كما قصها عليه ابن بطوطة، وأمره بأن يلزم المدينة ويضع هذه القصص في كتاب. وفعلاً، وبمساعدة محمد ابن جزي الكلبي، ألف ابن بطوطة كتابه الشهير “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار” في أربعة أجزاء منفصلة. وقد أضاف ابن جزي للكتاب الكثير من المحسنات البديعية وأبيات الشعر المنتقاة، وربما تدخل في بعض المعلومات، لكن يعتقد عموماً أنه التزم إلى حد كبير بما سرده ابن بطوطة عليه. وفي نص الرحلة لا ينكر ابن جزي تصرفه بالنص فها هوذا يقول في المقدمة: “ونقلت معاني كلام الشيخ أبي عبد الله بألفاظ موفية للمقاصد التي قصدها، موضحة للمعاني التي اعتمدها”، ويقول في آخر الكتاب: “انتهى ما لخصته من تقييد الشيخ أبي عبدالله محمد بن بطوطة”.

صدرت أول طبعة لرحلة ابن بطوطة في باريس، مع ترجمة فرنسية لها بأربعة أجزاء على يد المستشرقين شارل ديفرمري وبنيامين رافائيل سانغونتي عام 1853، وطبعت في القاهرة طبعتين منقولتين عن الطبعة المذكورة، كما أعاد نشرها علي المنتصر الكتاني وصدرت عن مؤسسة الرسالة في بيروت عام 1972م.

من طرابلس إلى حمص

وصل ابن بطوطة إلى مدينة طرابلس الشام في شهر حزيران عام 1326 على الأرجح، والتي وصفها بأنها “إحدى قواعد الشام، وبلدانها الضخام. تخترقها الأنهار، وتحفها البساتين والأشجار، ويكنفها البحر بمرافقه العميمة، والبر بخيراته المقيمة. ولها الأسواق العجيبة، والمسارح الخصيبة”.

ومن طرابلس ينتقل رحالتنا إلى حمص التي قال عنها: إنها “مدينة مليحة، أرجاؤها مؤنقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة الشوارع، وجامعها متميز بالحسن الجامع، وفي وسطه ماء. وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم. وبخارج هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله، وعليه زاوية ومسجد، وعلى القبر كسوة سوداء. وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل الناس صورة وأحسنهم سيرة”.

حماة

ومن حمص يسافر ابن بطوطة إلى حماة فيقول فيها: “إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها البديعة، ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، تحفها البساتين والجنات، عليها النواعير كالأفلاك الدائرات، يشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي. ولها ربض سمي بالمنصورية، أعظم من المدينة، فيه الأسواق الحافلة، والحمامات الحسان. وبحماة الفواكه الكثيرة ومنها المشمش اللوزي، إذا كسرت نواته وجدت في داخلها لوزة حلوة”.

معرة النعمان وسرمين

ثم سافر إلى مدينة معرة النعمان، مدينة الشاعر أبي العلاء المعري، وقد لاحظ أنها “مدينة كبيرة حسنة، أكثر شجرها التين والفستق ومنها يحمل إلى مصر والشام”. وأشار إلى أن قبر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الواقع خارجها لا زاوية عليه ولا خديم له”. ومن المعرة سار إلى مدينة سرمين، التي أشار إلى بعض منتوجاتها الشهيرة في ذلك الوقت: “وهي حسنة كثيرة البساتين، وأكثر شجرها الزيتون. بها يصنعون الصابون الأجري، ويجلب إلى مصر والشام. ويصنع بها أيضاً الصابون المطيب لغسل الأيدي، ويصبغونه بالحمرة والصفرة. ويصنع بها ثياب قطن حسان تنسب إليها”.

حلب

ومن سرمين توجه ابن بطوطة إلى مدينة حلب، المدينة الكبرى والقاعدة العظمى كما قال. ولفتت نظره قلعتها الشهباء. وتعجب من وجود “جبلين بداخلها ينبع منهما الماء، فلا تخاف الظمأ”. وقال: “ويطيف بها سوران. وعليها خندق عظيم ينبع منه الماء، وسورها متداني الأبراج وقد انتظمت بها العلالي العجيبة المفتحة الطيقان. وكل برج منها مسكون، والطعام لا يتغير بهذه القلعة على طول العهد. وبها مشهد يقصده بعض الناس، يقال: إن الخليل عليه السلام كان يتعبد به. وهذه القلعة تشبه قلعة رحبة مالك بن طوق التي على الفرات بين الشام والعراق. ولما قصد قازان طاغية التتر مدينة حلب؛ حاصر هذه القلعة أياماً”.

ويضيف في تعداد محاسنها: “هي من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع، وإتقان الترتيب، واتساع الأسواق، وانتظام بعضها ببعض. وأسواقها مسقفة بالخشب، فأهلها دائماً في ظل ممدود، وقيساريتها لا تُماثَل حسناً وكبراً، وهي تحيط بمسجدها وكل سماط منها محاذٍ لباب من أبواب المسجد”.

وفي وصف مسجدها الجامع يقول: “من أجمل المساجد. في صحنه بركة ماء، ويطيف به بلاط عظيم الاتساع. ومنبرها بديع العمل، مرصع بالعاج والآبنوس. وبقرب جامعها مدرسة مناسبة له في حسن الوضع، وإتقان الصنعة. تنسب لأمراء بني حمدان، وبالبلد سواها، ثلاث مدارس، وبها مارستان”. ولا ينسى أن يشير إلى الأمير المملوكي أرغون الدوادار، نائب الملك الناصر فيها. حيث يعده من الفقهاء، موصوف بالعدل، لكنه ينتقد بخله.

ويسافر ابن بطوطة من حلب إلى إلى قنسرين التي يقول إنها كانت مدينة قديمة كبيرة، ثم خربت، ولم يبق إلا رسومها. ثم إلى مدينة أنطاكية التي يصفها بالمدينة العظيمة الأصيل التي كان عليها سور محكم، لا نظير له في أسوار بلاد الشام. ويشير إلى أن الظاهر بيبرس هدم سورها لما فتحها. وأضاف واصفاً عمارتها: “أنطاكية كثيرة العمارة، ودورها حسنة البناء، كثيرة الأشجار والمياه. وبخارجها نهر العاصي. وبها قبر حبيب النجار رضي الله عنه. وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر. وشيخها الصالح المعمر محمد بن علي سنه ينيف على المائة، وهو ممتع بقوته، دخلت عليه مرة في بستان له وقد جمع حطباً، ورفعه على كاهله ليأتي به منزله بالمدينة، ورأيت ابنه قد أناف على الثمانين، إلا أنه محدودب الظهر، ولا يستطيع النهوض، ومن يراهما يظن الوالد منهما ولداً، والولد والداً”.

في جبال الساحل السوري

ثم سافر رحالتنا إلى حصن بغراس، وهو حصن منيع لا يرام، عليه البساتين والمزارع، ومنه يدخل إلى بلاد سيس. ومنه سافر إلى حصن القصير: تصغير قصر، وهو حصن حسن، أميره علاء الدين الكردي، وقاضيه شهاب الدين الأرمنتي من أهل الديار المصرية. ثم سافر إلى حصن الشغر بكاس، وهو منيع في رأس شاهق، أميره سيف الدين الطنطاش فاضل، وقاضيه جمال الدين بن شجرة، من أصحاب ابن تيمية. وبعدها إلى مدينة صهيون [قلعة صلاح الدين]، فقال فيها: “هي مدينة حسنة بها الأنهار المطردة، والأشجار المورقة، ولها قلعة جيدة، وأميرها يعرف بالإبراهيمي، وقاضيها محيي الدين الحمصي، وبخارجها زاوية في وسط بستان فيها الطعام للوارد والصادر وهي على قبر الصالح العابد عيسى البدوي رحمه الله، وقد زرت قبره”.

بعد ذلك يمر بحصن القدموس، ثم بحصن المينقة، ثم بحصن العليقة، ثم بحصن مصياف، ومنها توجه إلى مدينة اللاذقية التي يصفها بالمدينة العتيقة على ساحل البحر. ثم توجه إلى الجبل الأقرع، وقال فيه إنه أعلى جبل بالشام (؟) وأول ما يظهر منها من البحر، وسكانه التركمان، وفيه العيون والأنهار. ومنه يتوجه إلى جبل لبنان الذي يعده “أخصب جبال الدنيا، فيه أصناف الفواكه وعيون الماء والظلال الوافرة، ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصالحين، وهو شهير بذلك. ورأيت به جماعة من الصالحين قد انقطعوا إلى الله تعالى مما لم يشتهر اسمه”.

بعلبك

بعد ذلك يقصد ابن بطوطة زيارة دمشق فيمر ببعلبك، ويمتدح بساتينها وأنهارها الجارية، ويقول إنها تضاهي دمشق في خيراتها المتناهية. ويضيف: “بها يصنع الدبس المنسوب إليها وهو نوع من الرب يصنعونه من العنب ولهم تربة يضعونها فيه فيجمد وتكسر القلة التي يكون بها، فيبقى قطعة واحدة، وتصنع منه الحلواء، ويجعل فيها الفستق واللوز ويسمونها حلواء بالملبن، ويسمونها أيضاً بجلد الفرس. وهي كثيرة الألبان، وتجلب منها إلى دمشق، وبينهما مسيرة يوم للمُجد. وأما الرفاق فيخرجون من بعلبك فيبيتون ببلدة صغيرة تعرف بالزبداني، كثيرة الفواكه، ويغدون منها إلى دمشق”. ويتحدث عن صناعات بعلبك فيقول: “يصنع ببعلبك الثياب المنسوبة إليها من الأحرام وغيره، ويصنع بها أواني الخشب، وملاعقه التي لا نظير لها في البلاد، وهم يسمون الصحاف بالدسوت. وربما صنعوا الصحفة وصنعوا صحفة أخرى تسع في جوفها، وأخرى في جوفها، إلى أن يبلغوا العشرة، يخيل لرائيها أنها صحفة واحدة، وكذلك الملاعق يصنعون منها عشرا، واحدة في جوف واحدة، ويصنعون لها غشاء من جلد، ويمسكها الرجل في حزامه، وإذا حضر طعاماً مع أصحابه أخرج ذلك، فيظن رائيه أنها ملعقة واحدة، ثم يخرج من جوفها تسعة، وكان دخولي لبعلبك عشية النهار”.

دمشق

لا يبقى ابن بطوطة في بعلبك إلا يوما واحداً لفرط اشتياقه لدمشق التي وصلها يوم الخميس التاسع من شهر رمضان المعظم عام ستة وعشرين وسبعمائة (31 تموز/ يوليو 1326)، فينزل بمدرسة المالكية المعروفة بالشرابشية.

ويقول مستهلاً حديثه عن دمشق: “هي التي تفضل جميع البلاد حسناً وتتقدمها جمالاً، وكل وصف، وإن طال، فهو قاصر عن محاسنها. وأهل دمشق لا يعملون يوم السبت عملاً، إنما يخرجون إلى المتنزهات وشطوط الأنهار ودوحات الأشجار، بين البساتين النضرة والمياه الجارية، فيكونون بها يومهم إلى الليل”.

ويتابع وصفه: “تدور بدمشق من جهاتها ما عدا الشرقية أرباض فسيحة الساحات، دواخلها أملح من داخل دمشق، لأجل الضيق الذي في سككها. وبالجهة الشمالية منها ربض الصالحية، وهي مدينة عظيمة لها سوق لا نظير لحسنه، وفيها مسجد جامع ومارستان، وبها مدرسة تعرف بمدرسة ابن عمر، موقوفة على من أراد أن يتعلم القرآن الكريم من الشيوخ والكهول. وتجري لهم ولمن يعلمهم كفايتهم من المآكل والملابس، وبداخل البلد أيضاً مدرسة مثل هذه تعرف بمدرسة ابن منجا”.

وبعد أن يصف الربوة ومسجدها، والشاذروان، يحدثنا عن انقسام الماء الخارج منها إلى سبعة أنهار، كل نهر آخذ في جهة، ويعرف ذلك الموضع بالمقسم. ثم يتحدث عن قرية المزة التي يقول إنها تعرف بمزة كلب نسبة إلى قبيلة كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ويعتبرها من أعظم قرى دمشق بها جامع كبير عجيب، وسقاية معينة. ويلاحظ أن أكثر قرى دمشق فيها الحمامات والمساجد الجامعة والأسواق وسكانها كأهل الحاضرة في مناحيهم.

ابن تيمية

أثناء حديثه عن دمشق يأتي ابن بطوطة على ذكر الشيخ ابن تيمية فيقول: “كنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينـزل إلى سماء الدنيا كنـزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عز الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزّره بعد ذل، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ما كان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك بذلك وكتب عقداً شرعياً على ابن تيمية بأمور منكرة، منها: أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف لا يقصر في الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة”.

وقد أثار هذا الحديث عن ابن تيمية الكثير من اللغط، حيث أكد أكثر من باحث أن ابن تيمية كان مسجوناً عند زيارة ابن بطوطة لدمشق، ومن المستحيل أن يكون قد رآه، ويبدو أن القصة مكتوبة بشكل آخر على غير ما رواه ابن بطوطة، وربما كان هذا من اجتهادات ابن جزي الكثيرة في هذه الرحلة الكبرى.

(نقلا عن العربي الجديد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق