ثقافة وفن

سليم بركات والكتابة الشذرية… كل داخل سيهتف لأجلي وكل خارج أيضا

عبد العزيز كوكاس

“يعتقد الكاتب في الحياة أكثر من اعتقاده في الهوية، وما قد يبدو غريبا هو أنه يتصرف بنفس الطريقة أمام الموت”

جان فيليبس

ليس ما أقدمه هنا قراءة نقدية بالمعنى الحصري للكلمة لأعمال المبدع الفاتن سليم بركات، وإنما هو شهادة محض ذاتية على هامش متن كبير، كلما قرأته أحسست بتواضع لغتي ورموزي، وأن الدرب لا زال أمامي طويلا للإحساس ولو للحظة أنني اكتسبت أدباً، ولو كنت ابنا شرعيا للأدب..

تعرفت على سليم بركات في زمن متأخر عبر سيرة صباه: “هاته عاليا.. هات النفير على آخره”.. فاكتشفت كما لو أن المبدع بركات يخبئ عنا معاجم ضخمة للغة العربية لا تحفل بها خِزاناتنا.. تلك الكثافة اللازمة للكتابة، الوصف الباذخ المغرم بالتفاصيل.. لغة تقول الصمت الكثير الذي يسكن غُموض الأشياء، وتنقل أسرارها في لغة متفردة، هي جوهر شعرية سليم بركات، لغة شذرية تستمع للصمت الكبير لتقول الكلام الأقل، ولا يهمها ضجيج العالم الخارجي المفتون بوجع ما يجري على سطح الأشياء.. نحس في لغة بركات الانفلات من أسر اللغة المسكوكة والمعنى المكتمل والدليل الجاهز الممتلئ.

إنه مثل صائغ يعيد إذابة المجوهرات المتشكلة لديه سلفاً، ليصنع منها بحذق ومهارة شكلا إبداعيا جديداً.. في شعر سليم بركات، وكل كتاباته تمثل هدم الحدود بين الشعر والنثر، نحس ذلك السهر الدقيق على حسن انتقاء الحروف والكلمات والمعاني التي لا تدل على الطرق المرصوصة سلفاً في المتون السابقة أو المجايلة، أو حتى في كتابات بركات الإبداعية السابقة، مهندس ذكي هو يفتح طرقاً غير مسبوقة لأعالي الروح، بحساسية مفرطة يحرص سليم على التدمير الرصين لذاكرة الكلمات والمعاني، وتعابيره تلجأ إلى الحمية لتحافظ على رشاقتها وهي تمر في حقل ألغام الروح..

في كتابات سليم بركات، نحس أن كل نص إبداعي متعدد، لا يشبه ذاته.. كلما قرأناه وجدناه مختلفا عن قراءتنا السابقة له، ولا يشبه النصوص السابقة أو اللاحقة لما اختطه سليم بركات نفسه، كل نص هو اغتيال للشبيه، لأن اللغة الشذرية في نصوص بركات لا تخلق النموذج، ولا تسعى إلى جمع الحشود وخلق الأتباع، كل نص يُدخلنا إلى عتمة لا يُرى فيها إلا أثر الأشياء، لغة متشظية مضادة للنسخ وصنو الشبيه، تخلق فرادة كون مستقل عن فراغ العالم، هو بوابة الروح الإنسانية حيث نلامس تمزقات الهوية، غربة اللسان الذي سيصبح وطنه، ذلك الكردي الذي كان أكثر إتقاناً للعربية من بني ذات اللسان، جرح التاريخ، العيش الدائم في المنفى ليس كانتماء للجغرافيا بل ككينونة متشظية بين ألوان تسمو على علم وطني يعلو بناية حكومية أو يرسم الحدود والأسيجة، لذلك كان مطمئنا أن “كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضا”.. من “الفلكيون في ثلثاء الموت” حتى “هياج الإوز” و”ترجمة البازلت” و”أنقاض الأزل الثاني”… يعلمنا سليم بركات ذلك القفز الحر نحو الغياهب، صدى الفراغ، القبض على اللامرئي… لعل هذا ما دفع بالرائع قاسم حداد أن يعتبر أن أجنحة سليم بركات الكثيرة تجعله سرباً وحده، يقول: “كلما قرأت شعر سليم بركات سمعت صوتا غامضا يستعصي على التفسير، لكنه أكثر السبل متعة في التأويل، الشعر هو هذا في الأصل: شأن لا يستقيم مع التفسير، ولا يمنحه جدية وجمالا مثل التأويل.. فالشعر مع سليم بركات، هو الرمز الخالص المصفى الذي يصقل مخيلة القارئ لكي تصير جديرة به، بالشعر”.

في نصوص سليم بركات نحس بقيمة المعجز اللغوي، كيف نتوفر على ذات المعاجم والقواميس التي أحاطت باللسان العربي، ونتساءل كيف يمنح بركات للغة نصوصه الإبداعية زهو الربيع، شموخ الجبال، صفاء الماء.. مجنون هو هذا الفتى المسكون بالتحول، اكتشاف الغامض، زرع الفخاف في طريق القراءة الكسولة.. كم هي متعبة نصوص هذا المشاكس الكردي؟

كيف تقبض لغته المتشظية على لآلئ الغموض، وتنشر الحقيقة في ظلال الظلمات؟ كتابة هي سليلة المحو، حيث تظل حروفه وكلماته مثل آلة حربية – كما عبر جيل دولوز – تدمر الثابت، المألوف، المسكوك، تزرع الشعر في قلب نثر الحياة اليومية، تفكك سنن المعيار وطمأنينة المؤسسات، وببراعة البستاني وهو يشذب الأغصان ويطهر الربيع من الفضلات والطفيلات دون أن يئد الحياة في الشجرة أو الوردة، يحرص سليم بركات على مد تعابيره بما لا يحتاج إلى الإسعافات الأولية لإنقاذها من السكتة القلبية، لأن اللغة الشعرية التي رفعها إلى مرتبة القداسة بعد هدم ما امتلأت به الحروف والمفردات والتراكيب المسطرة في المعاجم أو بطون الأدب، هي صلب كينونته، هي هويته التي أنقذته من التشظي الهوياتي والمنفى وبؤس العالم، فخلق نصاً جميلا مهماً تعددت مسمياته وأجناسه، يظل نصاً واحداً، لعل هذا هو المعنى العميق لعبارة قاسم حداد: “أجنحة سليم بركات الكثيرة تجعله سرباً واحداً”، فلكي تفهم سليم يجب أن تكون سليما معافى من لغة البحث عن المعنى الصحيح، عشق الفضلات والزوائد، الافتتان بلغط العالم، فتنة المعنى المكتمل والدليل الجاهز، سحر الإيديولوجيا الزائف، الهوية المتشرنقة على ذاتها مثل بيت عنكبوت هو أوهن البيوت، الفناء في الثبات والاطمئنان لسلط اليقين..

اللغة الشذرية عند سليم بركات تقربنا مما أسماه نيتشه بـ”رنة الجسد”، أي تلك السعادة الزمردية ذات الأضلاع المتعددة مبنى ومعنى، التي تمنح العالم المرح الضروري لكي لا يفنى أو يُصاب بكسر في منتصف الطريق.. يركز بركات على منح الدليل اللغوي أقصى درجات انشطاره واعتباطيته كما استخلص ذلك فرديناند دو سوسير.. لذلك أعتبر أن كل نصوصه المتعددة من الشعر إلى الرواية هي نص واحد مختلف عن ذاته، في الرواية نلمس شعرية التفاصيل، نحو الفضاء grammaire de l’espace، شذرية الزمن الذي يحاكي ملامح الشخوص والوقائع حتى في أدق تفاصيلها.. في الشعر، نعثر على حكي السيرة التي عشقها الأكراد وخوَّنوه لأنه لم يبْق وفيا لما اعتبروه قضية منحصرة في تمجيد الزعماء والألقاب والجغرافيات المصنوعة في دهاليز الأروقة السرية لمخابرات النظام العالمي الجديد.

سيظل سليم بركات وشما على جسد الإبداع العربي، وستظل كتابته الشذرية تلتقط الثابت والعميق من قلب الزمن المتحول.. ستبقى نصوصه حاضرة رغم أنها سليلة الغياب لأنها تزلزل ثرثرة الأشياء، وتغوص بعيداً في خلجان الذات، التاريخ والعالم، ويحق له أن يردد مع نيتشه: “لم تستطع لغة ألبته أن تعبّر قبلي عن هذه السعادة الزمردية وهذا الحنان الإلهي”.. سيظل غموض بركات واضحاً فيَّ، وسيستمر حرصه على العناية الفائقة بما كان قد أسماه ابن قتيبة بماء النص، المعبر الأساسي على أن الشعر لا يوجد في العالم، وإنما في اللغة التي لا تحاكيه وإنما تصنعه وتبدعه أو تعيد خلقه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق