
د. محمد بدوي مصطفى
أجمل شئ أن يكون للإنسان أصدقاء أوفياء من أهل الصنعة والمهارة وغيرهم من الأحباب والأصحاب. حدثني صديقي بكري خضر عن وفاة هذا الفنان الجميل، وتوسل إليّ أن أنشر مقالًا عنه في صحيفة المدائن بوست. ولم يكن لذلك الرجاء أيّ حاجة، لأنه يعرف أيما معرفة بأني أبجل كل مبدع، خلاق وصانع وأقدس ما تمليه عليهم أخيلتهم حينما يضعونها على خدود الورق أو عرائس القماش. لقد استرسل صديقي بكري في الحديث عن زميله ورفيق دربه الذي اختطفته أياد القدر في لمح بالبصر، بالمملكة المتحدة، بلندن، تلك المدينة الحالمة التي هرع إليها أهل السودان وغيرهم وجاؤوها من كل كل صوب وحدب سائلين موقع السلم ولقمة الحرية المفوقدتان في بلاهم المنكوبة. حقيقة تذكرني مدينة الضباب والإهاب، بأشجار الصفصاف المنتصبة على حواريها، لندن، بقصيدة عصماء، رائعة في لحنها مبكية في شأنها، للشاعر السوداني البروفسير عبد الله الطيب بعنوان «ذكرى النيل»، حينما دغدغته ألسنة لهب الغربة وهام وحيدًا في تحنان إلى الأزرقين. كتبها وهو بلندن في وحدة ووحشة إلا من كتاب، كما الراحل محمد حمزة. كان يتلقى العلم، كما الفقيد، و قد طال مكوثه هناك، فانقسم بعض أصدقائه حوله، بعضهم يرى بأنه قد تفرنج و إختلط بثقافة الغرب و تأثر بها و نسى بلاده، والبعض يراه لايزال مستمسكاً بحبه و إنتمائه لوطنه لما عهد فيه، فلما علم بذلك كتب قائلاً:
بلندنَ ما لى من أنيس و لا مالى
و بالنيل أمسى عاذرى و عُذالى
ذكرت إلتقاء الأزرقين كما دنا
أخو غزل من خدر عذراء مكسال
ينازعها كيما تجود و ينثنى
و قد كان محبورا مُأنس آمال
إذا الأبيض الزخار هاج عُبابهُ
له زجلٌ من بين جال الى جال
تُرافقه من فوقه قزع الطخا
فتحسبهُن الطير تهفو لأوشال
يا حبذا تلك السواقى و قد غدت
بالحان عبرى ثرة العين مثكال
و شوك السيال يلمع النور فوقهُ
طرائق مثل الذر فى الآل
آلا ليت شعرى…
هل أبيتن ليلة بكثبان دار و الاحبة أحوالى
وهل أسمعن الدهر تغريد طائر..
و بالفجر ترجيع المؤذن و التال
وأرى أبيات القصيدة وكأنها تتحدث عن هذا العملاق الذي أفل نجمه ببلاد الصقيع وهو غريب الوجه واليد واللسان.
السيرة الذاتية:
وُلد نجم هذا العملاق الراحل المقيم في عام ١٩٦٦ فبلغ حين وافته المنيّة الخمسة وخمسون ربيعًا ونيّف، للأسف لم تسعفه الحياة أن يواصل إبداعه حتى يخرج كل ما بدواخله الجياشة من فنون واتقان وعمل، فليس كل ما ينتمى المرء يدركه، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن وهذه سنة الحياة ولا راد لقضاء الله.
لم يكمل الفنان الراحل دراسته من كلية الفنون ولم يتخرج بدرجة الإجازة في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بمدينة الخرطوم كما تذكر بعض المصادر، لكنه تعلم على أيدي كبار العمالقة بالسودان والمملكة المتحدة، وقبلها وبعدها صال وجال المدن والقرى ليقدم ابداعاته وعمله المتقن، من لوحات وتصاميم وإخراجات ذلك بشتى ولايات السودان فضلًا عن إقامته لمعارض عالمية في أوروبا، وقد أشاد بها النقاد ورفعوه بها إلى درجة العالمية. لم يبطره بلوغه هذه المرتبة الرفيعة من العلم الذي جناه كطالب علم في كل المدن، أن يواصل دأبه في التحصيل فقد شرع في البحث عن معلمين بلدن كان يختلف إليهم ويتعلم منهم أسرار المهنة ولقد هاموا بأعمالهم وأجبرهم ذلك أن يحترموه كإنسان وأن يبجلوا عملهم كفنان خلوق وخلاق بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان.
رسم البورتريه:
لقد اشتهر الراحل المقيم محمد حمزة برسم البورتريه والذي يعد من أوعر مجالات الفن، لما يتميز به من تفاصيل دقيقة، لا بد أن يكون الذي يشرع في بحره أن تتوفر لديه من امكانيات فنية عالية وذاكرة بصرية خارقة للعادة وحرفية وتميز وتفرد في النسج والخلق. وقد أجاد محمد حمزة فيه، بشهادة الكثيرين من الفنانين والنقاد.
فعند تمعن تلك الأعمال نرى أنه ينبثق منها الدقة المتناهية وتضفي علها ألوان القزح التي ينثرها بين أرجاء العمل كالدرر، أشواقًا إلى عوالم بعيدة حيث النيل والبركل وجبال التاكا والنوبة. وجدير بالذكر أن الفنان محمد حمزة ينتمي بأعماله لمدرسة الخرطوم في الفنون التشكيلية، والتي تضم العمالقة من تشكيليي السودان الذي خلفوا أعمالًا خالدة ولا تزال تلك المدرسة تؤهل وتخرّج من المبدعين من أولئك الذين يشار إليهم بالبنان على الصعيد الوطني والعالمي على حد سواء. من بينهم على سبيل المثال ولا الحصر الإستاذ الكبير والرسام العالمي إبراهيم الصلحي والأستاذ محمد أحمد شبرين والخطاط والرسام عثمان وقيع الله. نراهم مازجوا بين الرؤية والتصور والتجسيد من أجل خلق دنيا فن خاصة، متفردة تتميز عن غيرها من المدارس، معبرة بذلك عن إرث وثقافة بلدهم السودان، ونراهم قد برعوا ونجحوا في أن ينفردوا بهويتة هذا المدرسة عن المدارس الأخرى في كل أنحاء العالم وتفردوا وأتقنوا واشتهروا فأشهروها ومن ثمّة كانوا السفراء لثقافة بلدهم السودان الذي رافقهم في القلب والعقل بكل المحافل الدولية والعالمية. وأثبتوا حينئذ للعالم أجمع أن بالسودان، هذا البلد المعطاء، كفاءات فنية جبّارة يمكن أن تقارع الجبابرة في حلبات الفن التشكيلي وحدث ولا حرج.
تنعي صحيفة المدائن بوست، أسرة الفقيد، كلية الفنون التشكلية بالخرطوم، أعضاء مدرسة الخرطوم التشكيلية، وكل تشكيليي السودان من أصدقاء وزملاء وأساتذة وطلاب بالوطن وفي كل أنحاء العالم، رحيل الفنان العالمي والشتكيلي الضرغام الأستاذ محمد حمزة الذي فاجأنا برحيله البراقي وكل من هؤلاء يعبر عن حزنه الدفين وألمه الثمين في فقده الجلل لهذه القامة الفنية. اللهم أجعل مثواه الجنة وادخلها في زمرة الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.