
عمّ الفاضل!
بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
ذكرياتي بمدرسة بيت المال الابتدائية بأمدرمان لا تزال في مجملها حاضرة، نديّة وبضّة رغم مرور الزمن: أربعة عقود بالتمام والكمال أو ربما ازدادت نيّفا، وإن شاب بعض منها شيء مثل النسيان. كانت مدرستنا على مقربة من نهر النيل، تقترب من ضفته الغربية في خشوع حينما يعانق أبيضه أزرقه تحت أشعة شفق الشروق. كانت المدرسة تنقسم إلى جزئين، بيت المال شرق ومدرسة أبو قرجة. لكن فيما أذكر أنني وبعد أن أكملت الصف الثاني، تم دمجهما لتصير مدرسة بيت المال الموحدّة التي تخرج فيها عمالقة من أبناء السودان، بكل المجالات وحدث ولا حرج. حوتها نخبة من الأساتيذ الأجلاء الذين لن ننسى فضلهم علينا، منهم على سبيل المثال لا الحصر أستَاذ عثمان الأمين، أستاذ فتحي، أستَاذ كمال، أستاذ عمر أورو، أستاذ السراج وكثيرون ممن لهم علينا في العلم والتحصيل أياد سابغة. وبين كل هؤلاء انزوى رجل ربعه القامة، بهيّ الطلّة، جميل القسمات، بشوش المظهر، ودود كريم ومجتهد: عمي الفاضل. لا تزال لِذّة الفلافل المتبلّة على يديّه والفول الذي كان يُعدّه يقدحان بطرف لساني، يا إلاهي، ما ألذّهما، وما ألذّ سلطة الفول السوداني، وما أروع أقراص الفلافل وما أبدع رائحة الفول بقدرها الفضي عندما يغطي بخارها سماء المدرسة وهي مستكينة تحت شجرة النيم الوارفة مذ أن أبصرنا على الحياة في تلك البقعة. لا زلت أذكر جلسته وابنه يعدان لمئات التلاميذ وجبة الفطور. كان يقعد في الفناء المقابل للبوفيه “بنبرا” (مقعد خشبي منخفض جُدِل بالحبال) وقد التفّ حوله التلاميذ ينظرون إلى دأبه ونشاطه وحبّه لعمله. لا زلت أذكر أننا كنّا نصطف أمام البوفيه نقابل شباكه الأخضر والذي بدت عليه علامات الزمن خلفتها أيدي من جاءوا لطلب الوجبة. لا زالت كلماته ترنّ في أذنيّ: يا ولدي الطعمية قرّبت تخلص كدي أصبر عليّ شوية! كنا ندفع له الثمن وأذكر فيما أذكر أن من بني بيت المال الكثيرين، حتى أبناء اليمانيين، الذين صعبت عليهم إذذاك مليمات الوجبة. لم أر في حياتي أنه صد أحد، فكان يزود الكل دون أن ينبس أو أن يَمنّ على أحد. كم من جيل تربى على يديّ هذا الرجل الكريم، فإذا بدأنا أن نصحي الأعداد، فلن تسع عقولنا كثرتها. عم الفاضل بطل من أبطال الزحام، لا أدري إن كان على قيد الحياة أم فارق دنيانا إلى جنان الخلد. رسالتي لأبنائه وبناته، لكل تلميذ نَعمِ بكرمه إذذاك أن يدعو له عنّا بالخير والسكنية والسلام الإبديّ، بقدر ما أعطت يداه السابغتان من خير ومن نِعَم. فعليه منّي سلام الله ورحمته.