سلايدرمجتمع

البروف عبد الله التوم

عبقريّ الأنثروبولوجي بين دارفور ودبلن

توطئة:

سوف أرجأ مقدمتي عن البروف عبد الله التوم، هذا الرجل المتفرد والقامة العلمية إلى إحدى الحلقات القادمة والتي سوف نسلط الضوء فيها على موسوعيّته. حتما يعرفه البعض منَّا وقد تغيب معالمه عن البعض الآخر من أهلنا بالسودان. اسمحوا لي يا سادتي ولكي يدخل القارئ من أول وهلة في أجواء غرب السودان الحالمة وسحر السرد المتفرّد أن أغيّب مقدمتي فيه لحلقات تالية وسوف نتبع هذه الحلقة بحلقات عديدة شيقة متميزة وحصريّة للمدائن بوست كما سنبحث في هذا السياق عن حيواته وعن آثاره ومآثره الجليلة، هذه الشخصيّة علّمت نفسها بنفسها وبلغت من درجات المعرفة العلى.

حاوره: د. محمد بدوي مصطفى

> من هو عبد الله التوم، النشأة، الشباب، الحياة نين الاهل:

< من هو عبد الله التوم؟  هذا السؤال كان حرياً به أن يوجه لأحد معارفي حتى تأتي الإجابة أكثر صدقا وحيادا.  أنا من مواليد قرية بروش، شمال دارفور، وضعتني أمي بمساعدة قابلة أمية لم تسمع بالتاريخ الميلادي.  ولكني ولدت أسعد حظا من غيري في المنطقة فبعد أكثر من عقد بعد ميلادي، فحص أحد الممرضين أسناني، تماما كما يفعل تاجر الماشية لتحديد عمر الحيوانات التي تباع في الزرائب، وقرر أنني ولدت في ١/١/١٩٥٦.

تقع بروش في ريفي أمكدادة، ١١٦ ميل شرق الفاشر وقد ارتبط اسم أمكدادة بمقولة شهيرة صِيغت في جرائد الخرطوم “أمكدادة ما ذنبها؟ “؛ قد يتيقن بعض قراء صحيفة المدائن أن هذه المقولة قد أشارت وقبل أكثر من جيل لوضع إحدى لبنات التهميش في السودان فقد جاءت المقولة عقب استيراد مرشح من خارج الدائرة ليفوز في أول انتخابات السودان المستقل ويصبح رئيسا للجمهورية وقد كان نائبنا المخضرم هو عبد الله خليل.  عفا الله عن عبد الله خليل، أما أنا، فلا أستطيع أن أعفو عنه أي أعذره.  لقد شغلته مهامه الجديدة فلم يستطع الرجوع لناخبيه ليشكرهم على تمكينه لتسلم رئيسا الجمهورية فاكتفي بإرسال صورته الجميلة الي أمكدادة لتحل محله!

نشأت في بيئة بعيدة عن الفقر:

لقد نشأت في بيئة سعيدة وطيبة وآمنة وبعيدة عن الفقر المقعد.  لم نكن فقراء وما كنا نعرف أن هناك منظمات عالمية تستهدف الفقراء من أجل مساعدتهم وما كنا نعتقد إننا قد نكون من بين الشعوب التي تحتاج إليهم، إن وجدو.  لا، وأبدا لا، فقد كان في وسع جميع الأسر أن تؤمّن مؤنتها من الزراعة والرعي ويتولى الأقارب والجيران رعاية من أقعدتهم الإعاقة أو المرض.  كان يحدوني الأمل في صغري وكان ذلك حلم الجميع في عمري أن ينهض السودان الجديد والمستقل ويصبح من الدول التي تعرفنا عليها في رحلات مادة الجغرافية الوهمية وما كنا نتخيل أن الفاجعة في انتظارنا، فقد تبدد حلمنا بجدارة.

بروش أمكدادة وعلوم أهلها وفراستهم بالطبيعة:

تدرجت في الدراسة وكنت أبتعد أكثر من بروش كلما تقدمت في مراحل التعليم: بروش، أمكدادة، الفاشر ثم الخرطوم.  لم يكن هذا التباعد جغرافيا بحت، بل كان فكريا فجا عصفت بانتمائي إلى بروش وأولويتها، ومعرفتها ببيئتها، ان لم نقل وقراءتها للعالم.  لقد عرفت لاحقا ان النظام التعليمي في السودان حضري المنحى ومتعمق في احتقار الريف وثقافته.  نجاح طفل الريف في ينزعه نزعا من ثقافته فيأتي بزي جديد ولسان جديد ومذاق طعام جديد أيضاً.   لقد تضاءلت خجلا مرات ومرات عندما تابعت أهلي في بروش وهم يتحدثون بدراية وحماسة عن طباع الأغنام وطباع الجمال وأنواع الجراد، المأكولة منها والسامة. كنت في حينها مهموما بنتيجة الانتخابات الأمريكية وفرص فوز جيمي كارتر أم هزيمته وبمباحثات التسليح النووي. أرني خريج جامعي واحد في السودان يستطيع أن يجاري أهلي في بروش في الحديث عن طباع الماعز لأكثر من عشرين دقيقة. الهم أرفق بالسيد عمر القراي، الوزير الحالي للتعليم، في مهمة إعادة صياغة المنهج المدرسي في السودان.

بين جامعات بلفاست (إيرلندا الشماليّة)، سانت أندرس (أسكتلندا) وكيس وسترن (أوهايو):

تحصلت على درجة الماجستير في جامعة الملكة ببلفاست في إيرلندا الشمالية (١٩٨٠)، والدكتوراه من جامعة سانت أندرس في إسكتلندا (١٩٨٣)، قضيت سنة ما بعد الدكتوراه في جامعة كيس وسترن، أوهايو في الولايات المتحدة الامريكية، وجميعها في علم الاجتماع.

> القراءات التي دعمت مسيرتك العلمية حتى طافت بك في كل انحاء الدنيا:

< لا أدرس كيف أصبحت وراقا، أي مؤلفا للكتب في أنني نشأت في بيت من بيوت الكتاب الواحد وهو المصحف الكريم.  يظل المصحف وحيدا في المنزل حتى يأتي المولد النبوي حين تحط علينا كتبه ومدائحه ومعظمها من تأليف الأمام الميرغني الأكبر.  بعد فترة المولد تختفي هذه الكتب تماما فلا مكان للميرغنية وحزبها في بروش.  نعم، نشأت في مجتمع شفوي يحصر القراءة والكتابة في حيز الدين وكل كلمة او حرف فهو مقدس. أذكر أن بعضا منا يقوم بحرق أي ورقة ملقاة على الأرض حتى لا يطأها أحد فكل كلمة عربية تشمل اسم الله أو مكوناته من الحروف الأبجدية. قد أكون أفضل حظا من غيري فقد نال والدي شيئا من التعليم الاولي وقد كانت والدتي أول بنت يدفع بها والدها للمدرسة وتبعتها بعد ذلك أختها ست الأهل، أمد الله في عمرها. لقد ساعد التعليم الابتدائي الذي تحصل عليه والدينا في تعليمنا بل وتعليم أبناء أقربائنا أيضا.

ثقافة المشافهة:

شفوية مجتمعنا تعني أن التعليم لم يحدث تأثيرا في الحياة اليومية فلا جرائد محلية ولا مكتبات عامة ولا ندوات ثقافية وقد ظل استغلال العلم في دفع الاقتصاد أيضاً ضعيفا لحد ما.  والغريب أنه بالرغم من ذلك، فان أمكدادة الكبرى هي من أعظم منارات التعليم في دارفور، فهي مدينة ولا يخلو حي من أحيائها من وجود عشرات المعلمين والمعلمات ويندر أن تجد متعلما في دارفور لم يتتلمذ على يد أحد معملي ومعلمات أمكدادة. 

رأس المال وكارل ماركس:

أطلت الحديث عن معلمي أمكدادة لأنهم مصدر جل الكتب التي قرأتها في يفاعة عمري فأقرب المكتبات كانت في مدينتي الفاشر والأبيض، أي على بعد يومين أو ثلاثة بالناقلات وهي قليلة الجود.  في اللغة العربية وفي مجال الأدب، قرأت بعض الكتب لنجيب محفوظ والمنفلوطي والعقاد وبعض ترجمات أرسين لوبين.  أما من الكتاب السودانيين، فقد تأثرت بكتابي حسن نجيلة وهما “ذكرياتي في البادية” و”ذكرياتي في دار العروبة”.  قد كان الكتاب الأول أقرب إلى واقعنا أذ أنه عُني بمجتمع تعاشرنا وتصاهرنا معه وقد ألهمني الكتاب بحلم مجاراته بالكتابة عن منطقتي وهو ما فعلته لاحقا بجهد متواضع.  حاولت قراءة “رأس المال” وأنا في المرحلة الوسطي ولم أفلح في فهمه وكمال قراءته لأنه يتطلب الماما عميقا بعلم الاقتصاد. لم أعد لرأس المال إلى أن التحقت بالجامعة حيث درسنا بعضا من علم الاقتصاد السياسي وقد كنت في حينها أيضا عضواً في مكتبة المركز الثقافي الروسي في الخرطوم. وأعترف أني إلى الآن أفضل أن أقرأ عن كارل ماركس أكثر من أن أقرأ له. 

رحلتي مع الأدب الإنجليزي:

أما باللغة الإنجليزية فقد أعجبت بقصص الأدب الإنجليزي وهي كانت متوفرة لمقررات مرحلتي الوسطي والثانوية.  لقد كان تشالس دكنز هو أحب الكتاب إلى نفسي ولم أتمكن حتى الآن من قراءة مؤلفاته الكاملة والكتب التي قرأناها جاءت مبسطة ومتماشية مع ما اكتسبناه من مستوى في اللغة الإنجليزية.  لا أدري كيف تحصلت على كتاب الكاتب الفرنسي دوركهايم “الانتحار” وهو أول عمل أقرأه بلغة الكاتب وإن كان ترجمة خالصة من الفرنسية الي الإنجليزية. قرأت هذا الكتاب وأنا في صف أولى ثانوي والغريب أني قمت بتدريسه عدة مرات فهو ضمن مقررات علم الاجتماع في جامعات كثيرة. 

أنا والإخوان المسلمين والكتب الدينيّة:

أما في الجانب السياسي فقد كان جهدي ضعيفا في مرحلتي الأوسط والثانوي فقد كانت الكتب السياسية تكاد تكون معدومة في المنطقة.  أقول ذلك لأني لم أكن أعلم وأنا في الأوسط أن الإخوان المسلمين يمثلون حزبا سياسيا في السودان. قد يكونوا كذلك في الخرطوم وليس في أمكدادة.  بالرغم من ذلك، انتشرت كتب الإخوان المسلمين في المنطقة وقد أتى بها إخواننا الكبار والذين وصلوا مرحلة الجامعات والمعاهد العليا. لقد تعاطف جيلي مع هذه النخبة الجديدة، ربما بسبب القرابة أكثر من التقارب الفكري أو الحزبي. قد قرأت معظم كتبهم المتداولة مثل “جاهلية القرن العشرين” لمحمد قطب، و”العدالة الاجتماعية في الإسلام” لسيد قطب وبالطبع “معالم في الطريق”، أيضا لسيد قطب والذي أعتقد أنه أصبح بمثابة منفستو لحكومة الإنقاذ. كيف لا والكتاب يوصي بثلاث أعمدة لأنشاء المجتمع الاسلامي وهي: التصورات الاعتقادية، والشعائر التعبدية، والشرائع القانونية وقد بذلت حكومة الإنقاذ جل جهدها في هذه المحاور. ومن الطريف أنني عندما وصلت الصف الأول في المدرسة الثانوية، بعثت مجموعة الإخوان المسلمين بأحدهم لتجنيدي كما تفعل كل الأحزاب بالطلاب الجدد. جاءني يحمل بعض الكتب التي ذكرت بعضا منها وارتبك غير مصدق حينما أخبرته قرأت كل هذه الكتب ولا رغبة لي في الانتساب إلى مجموعته.  تحدثت معه واستخلصت أنه لم يقرأ بعض الكتب بعد ولم يكن ذلك غريبا فالإخوان المسلمون ليسوا قارئين ولم يترك لهم محاولة حفظ القرآن الكريم وقتا لقراءة الكتب، ولا سيما الأدبية. أقول هذا ولا اعتراض لي على حفظ القرآن وقد كان والدي، عليه الرحمة، من حفظة القرآن. 

> أنتم على علاقة وطيدة برئيس الوزراء حمدوك، ماذا تعرف عنه من سمات يجهلها المواطن العام:

< نعم أعرف السيد رئيس الوزراء حمدوك وذلك من زياراتي العديدة لإثيوبيا وقد التقينا مرات ومرات سواء كان ذلك في بيته أم في أحد مطاعمه المفضلة.  أما على الصعيد الرسمي، فقد شاركت معه في عدة ورش أعمال في دول عدة، بعضها تحت قيادته. ليست لي اتصالات مباشرة معه وأكتفي ببعث رسالاتي الشخصية عبر طرف ثالث في طاقم وزارته. أتفهم أن صعوده لمنصب رئاسة الوزراء يحتم عليه إعادة تنظيم شبكته الاجتماعية الخاصة، وقد كان، فقد أصبحت الآن خارج الشبكة الجديدة. يمكنني وصف حمدوك بأنه خلوق ويتمتع بعلاقات واسعة على نطاق السودان وأفريقيا والعالم أجمع. أما كفاءته وجدارته في مهامه الرسمية فيكفيني أن أشير إلى واقعة سمعتها ولم اتشرف بحضورها: في حفلة وداعه من مكتب الأمم المتحدة في أديس أبابا، فُرشت له الطرح ليمشي عليها وهو في طريقه إلى المنصة وهذه عادة أثيوبية قديمة مخصصة فقط للملوك والأمراء العظماء.  أضيف أيضا أن حمدوك ورد أسمه كأحد المرشحين لمنصب نائب السكرتير العام الحالي للأمم المتحدة ولكن لم يحالفه الحظ في الفوز بالمنصب. إن كان لحمدوك منقصة فهي تكمن في طيبته المتناهية، فالسياسة أحيانا تتطلب المكر ودفعْ الخلق الطيب جانبا وهذا ما لم يتطبّع عليه سيادته بعد.   

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق