
سحر الجيرمان وحلاوة الرومان
ستراسبورغ
د. محمد بدوي مصطفى
مدينة ستراسبورغ، مدينة فاتنة تجمع بين سحر الجيرمان وحلاوة الرومان، ألق البنفسج ورحيق الرمّان. كم من مرّة زرتها ولنا فيها أصدقاء من الفرنسيين، كم فتنت بها وبحياتها الرغدة السهلة التي تنساب بين الأضلع كما ينساب العسل في حلق المتيم الولهان. تجد في كل بقعة الابداع وترى الجمال، التاريخ، الحضارة والتمدن حاضرا يؤثرك بحضوره. ما أعظم كاتدرائيتها والتي تعد من أهم الكاتدرائيات في أوروبا. تذكرني برسوماتها الكبيرة لا سيما الورود الهندسية والجداريات عندما تنبثق أشكال منها توحي باختلاط الحضارات، وريثما نقارنها نحس وكأننا بروما أو بمدن الأندلس ونتساءل حينئذ كيف تبادلت الشعوب هذه الفنون بعضها البعض ونثروها في العالم أجمع، تأتي الإجابة لحظتئذ على شاكلة مرافعة للإخاء والصداقة والمحبّة، ألم يخلقنا الخالق شعوبا وقبائل لنتعارف؟!
تقع ستراسبوغ شرقيّ فرنسا ويبلغ تعداد سكانها حوالي مئتي وسبعين ألفا ويزداد عدد الناس ليبلغ أكثر من ستمئة ألفا عندما تضم في حضنها الضواحي والبلديات المجاورة. هي ودون أدنى شك من أهم المدن الأوروبيّة لأنها مقر البرلمان الأوروبيّ والعديد من المؤسسات التابعة للمفوضية الأوروبيّة. يعد وسط المدينة من المناطق التاريخيّة العظيمة والمحميّة من قبل اليونيسكو منذ عام ١٩٨٨ وذلك لأنها تتسم بطابع ثقافي ومعماريّ ألمانو-فرنسيّ.
نجد أهميتها أيضا بين دفات كتب التاريخ إذ أنها لعبت في فترة الإمبراطوريّة الرومانيّة دورا هاما كمعسكر للجيش يدعى “أرغنتوراتوم” وأول ظهور لهذه التسميّة كانت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد. قام الملك لويس الرابع عشر بعد حرب الثلاثين بضمها إلى مملكته وبدأ نجم المدينة يتألق بعد هذه الفترة إذ نشأت بها التجارة العالميّة وانتعشت اسواقها بالنمو الاقتصادي إلى القرن التاسع عشر. لكن عندما نشأت الحرب البرويسيّة الفرنسيّة، دمر البريسييون المدينة شرّ دمار وانهارت كل المعالم التاريخية والاقتصادية بها. وبعد نهاية تلك الحرب آلت المدينة إلى الامبراطوريّة الألمانيّة، بيد أنها رجعت بعد الحرب العالميّة الأولى إلى التراب الفرنسيّ مرّة أخرى.
تضم ستراسبوغ واحدة من أعرق المدارس العليا الفرنسية ألا وهي المدرسة الوطنية الفرنسية للإدارة وهي التي تُخرِّج فيها كبار موظفي الدولة الفرنسية من الرؤساء والوزراء، فضلا عن أنها تعتبر مدينة منافسة لمدينتي بروكسل ولوكسمبورغ من ناحية احتوائها للعديد من المؤسسات السياسية الأوروبية، حيث يقع البرلمان الأوروبي في منطقة الاورانجوري، كما المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والمجلس الأوروبي ومقر أمين المظالم الأوروبي. وإضافة لذلك يوجد في وسط المدينة المؤسسة الاوروبية للعلوم، وغيرها العديد من المنظمات الأوروبية والدولية الصغيرة.
سوف أعود إليك يا أيتها الساحرة لزيارة أصدقاء من الأحباب، سكنت بينهم ابنتي عندما كانت تتعلم اللغة الفرنسيّة وجاءت ابنتهم ماري تعيش معنا لتتعلم الألمانيّة. هكذا حياة الشباب في أوروبا، بوتقة من التفاؤل والتلاحم والإخاء. أليس في ذلك عبرة لأولي الألباب؟