سلايدرسياسة

الصالون الثقافيّ … صالون النهضة (4)

الشرق والغرب عبر القرون … بين التناغم والاصطدام!

أهميّة التلاقح المعرفيّ بين الشرق والغرب

د. محمد بدوي مصطفى

توطئة:

من أجل أن نتعرف بدقة على أسباب النهضة أو حتى النكسة التي ألمّت بالوطن العربي والإسلاميّ على حد سواء، ارتأيت أن أرجع البصر كرتين لأرى هل من فطور لا سيما إلى حقبة هامة تُعنى بالتقاء الشرق بالغرب عبر القرون. وجدت ساعتئذ هنا وهناك بعض المسائل الهامة التي لم تسنح لي السانحة أن أعرضها عليكم كما ينبغي عليّ أن أفعل. لذلك فهانذا أعود بكم مرّة أخرى إلى قضية التناغم والاصطدام من جهة ومسألة ارتقاء الشعوب عبر التلاقح الثقافي من جهة أخرى ولي إن شاء الله عودة إلى صالون الأدب الذي تأثر في هذا وذاك – سواء في حالة التناغم والتلاقح أو في قضية الاصطدام والمعركة – برسائل عالم الغرب وأهله عموما. نرانا يا سادتي لا زلنا نطرح بجديّة هذه القضايا الملحة التي من شأنها أن تمكننا من قراءة التاريخ قراءة صحيحة، متأنية وصائبة أو ربما من جديد ومن ثمّة معرفة ماهية الأشياء التي أدت إمّا إلى نهضة العرب أو إلى نكستهم، ذلك في سياق التطور أو التدهور المعرفيّ المشهود.

لذلك دعوني أزعم في هذا الإطار أن ازدياد الحملات المعادية للعالم الغربيّ في العقود المنصرمة واقعا ملموسا في حيواتنا وكانت تزداد في العقود المنصرمة يوما تلو الآخر ولا زالت تتكاثر كالنمل وتقتحم الأرض كما يقتحمها الفطر الطفيليّ. كل تلك الحركات الإسلامويّة المتطرفة نادت وتنادي – دون استثناء – رافضة لكل ما أتى من الغرب من علم، معرفة وحضارة جملة وتفصيلا. وأحمد الله على ما قام به أولو الأمر في بلاد الحرمين والمغرب وتونس وبعض البلدان الناهضة من تكبيل وتثقيف لهذه الحملات المعادية التي تصرخ ملئ شدقها رانية لانقسام الشعوب واصطدام القلوب وكلنا على علم تام بإن الله قد خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف والمضمون السيميائي لهذه الوحدة المعجميّة “التعارف” واسع أيما اتساع وفوق ما نتصور؛ وقل لو كان النهر مدادا لتفسيره لنفد النهر قبل أن ينفد التعليل ولو أتينا بمثله مددا. لذلك علينا في هذا الشأن يا سادتي أن نرجح العقل ونُعمله ومن ثمّه أن نفرز الصالح من الطالح فحصا أكاديميا وعلميّا صارما. أقول، ربما أن موضوع تعامل الغرب مع الحضارة الإسلامية قديما يكون معروفا لبعضكم في شذرات أو تماما، وللأغلبية خفيّ ورغم ذلك هل وقف أحدنا مع نفسه يحدثها لماذا وكيف ومتى …؟

الغرب والشرق بين الهجوم والهجوم المعاكس:

إن لاتقاء الحضارات بعضها البعض أثرًا رئيسا في ارتقاء الشعوب ونهضتها ورقيها. هذا بالضبط ما حدث في الأندلس عندما انتقلت حضارة العرب والإسلام إلى أوروبا ودعمت الحراك المعرفي في بلاد الغرب قاطبة ومن ثمّة وطدت لشروق شمس عصر الأنوار الذي لا يزال نوره يشع على بقاعها المختلفة. لذلك فإن موضوع تقبل حضارة أجنبيّة فضلا على أنها تنتمي لديانة غير مسلمة، يحسبها الأكثرية معادية، تبعث فيه أبعاد عميقة يجب علينا أن نقف إليها وقفة حكيمة، إذ أن الغرب، وفي فترة اشتد فيها العداء للمحمديين، نهل من منابع حضارة الإسلام إلى أن بلغ عصر التنوير الذي كان الانطلاقة الجبارة لعلمه ورقيه وسموه الإنساني في العصور السابقة وإلى الآن. من جهة أخرى ورغم عداء الجماعات الإسلاموية للغرب لكنها في كل الحالات والنكسات تلجأ إليه. فهي ترى فيه النجدة والسلوى عندما تشتد بها الحاجة وأيضا حينما تفتقد إلى الحيلة فهي تولِّي وجهها قبلة الغرب المسيحيّ كقبلة ترضاها دون تردد.

إن أهمية موضوع تلاقح الحضارات واستعارتها من بعضها البعض ليست فقط هامة من وجه نظر علمية أو أكاديمية ولكن من وجه نظر أخرى، إنسانيّة، تخصنا، سيما في وضعنا الحالي الذي لا يفتأ أن يتأزم سنة تلو الأخرى. نرى بأم أعيننا تداعيات الاصطدامات الثقافية والدينية بيننا وها هي بلادنا تتقسم في دواخلها ودواخلنا إلى شعوب وقبائل وما خفي أعظم. إذا فشأن هذه المسألة يُعنى بقضايا تسامح الحضارات والثقافات والأشخاص الذين يعيشون فيها ومما في ذلك من أهمية في تطور الإرث الثقافي والحضاري لنا ولغيرنا دون النظر إلى المنتميات، إثنيّة، عرقية كانت أم لاهوتية.

لقد أهتم عدد من الباحثين بدراسة الأوجه المتباينة لتأثير التراث الإسلامي العربي في الحضارة الغربية في القرون الوسطى وضمنت محاولاتهم نتائجا طيبة، بيد أن الكثير من الحقائق المتعلقة بهذا التراث تظل غامضة وغير مدروسة فضلا عن اكتشاف أبعادها الاجتماعيّة من قبل الباحثين. فالمكتبة العربية الإسلامية تفتقد وإلى الآن لأبحاث ودراسات شاملة وجادة في هذا الحقل الهام لتتمكن من تقييم مدى المساهمة الإسلامية في الحضارة الغربية وأهم آلياتها التي استوعبها الغرب وهضمها إلى أن بلغ من الشأن أزهره. وهل لنا في ذلك من عبر لنخرج ببلادنا وأهلينا من الظلمات إلى النور بإشراقة عهد تنوير يشع سناه في أرجاء العالم ويكون لنا نقطة انطلاق جديدة لعهد مزهر وحضارة ترفع من شأونا بين الأمم لكي يساهم الإنسان العربي في المنظومة العالمية مساهمة رئيسية ولكي نبتعد من الاستكانة وسهولة نقل المسؤولية على عاتق الآخرين. فلينظر كل منّا في منزله ليعد ما أتى إلينا من الغرب أو قل من اختراعاته: الموبايل، السيارة، الدواء، اللبن المجفف، الحلوى بأنواعها، التلفاز، الفيديو، الفيس بوك، الواتس أب، القوقل، الكتب العلمية في الجامعات، الخ والقائمة تحتاج لأيام حتى تكتمل. من جهة أخرى نفتقد بصورة جليّة لأبحاث أساسيّة وتحليلات علميّة جادّة لمعرفة ماهيّة الأسباب التي أدت إلى الركود الحضاري والنكسة للشعوب العربية الإسلامية بعد أن كان لها الصدارة في تلك الحقبة.

يعطي بعض المفكرين الحروب الصليبية نصيب الليث في لون أو قل تسمم العلاقات بين الشرق والغرب. لكن في الحقيقة إن تلك الفترة لا تمثل سوى حلقة صغيرة – بالمقارنة – من حلقات الصراع ومراحل التأرجح العديدة بين الهجوم والهجوم المعاكس بين الكتلتين النصرانية والإسلامية. والجدير بالذكر أنّ على مدى ألف سنة ومنذ أول حملة إنزال من المغرب باتجاه جبل طارق وحتى الحصار العثماني الثاني حول فيينا، ظلت أوروبا تحت سيطرة الإسلام. لذا هم يدينون لحضارتنا وثقافتنا بالعرفان والجميل.

ضرورة الاحتكاك الحضاري في تقدم الشعوب:

لقد بلغ الاحتكاك الحضاري القرون الوسطى المتقدمة أوجه وصار واقعا ملموسا بكل أرجاء أوروبا. فبدأ الغرب وأهله حينذاك يعتني بالتراث العربي الإسلامي وأيما اعتناء. لكن إذا سألنا أنفسنا ما هي أغراض وأهداف هذا الاهتمام؟ هل أرادوا فقط استخراج الكنوز الثقافية التي ألفها علماء العرب أو التي أُلفت في حقبة حكمهم بشبه الجزيرة الإيبيريّة؟ هل نشدوا التقليد والمحاكاة للوصول إلى ضالة منشودة ألا وهي بناء صرح كالذي يقف شاهدا على فطنتهم الثاقبة وذكاءهم الحاد؟ على كل حال لقد أولع أهل الغرب بالعلوم الإسلامية والعربية أيما ولع فنشطت عهدذاك حركة العلوم وانتشرت مجالسها وأنشأت المكتبات واقيمت المدارس الأكاديمية ونشطت الترجمة ودورها في النقل ولم تستطع أن تلبي الحاجة الماسة للمؤلفات التي ترجمت إلى اللاتينية ومن ثمّة الاسبانية والكتلانيّة. وتوازا قانونا العرض والطلب بيد أنهما قد عجزا في تلبية العطش الكثيف والمتصاعد لفهم وهضم هذه الحضارة. لذا أخذت اللغة العربية في الانتشار السريع، كالنار على الهشيم؛ وصارت في فترة وجيزة بين أهل اسبانيا وايطاليا والبرتقال لغة العلم، الأدب، الفن والحضارة. وطغت على اللغة اللاتينية التي كان مواطنو شبه الجزيرة الإيبرية يتداولونها كلغة شفاهة محلية. لعمري لقد أفتتن انسان الغرب بالحضارة الإسلامية وبطرق معاملتها لأهل البلد وكيف فتحت لهم آفاقا لم يكونوا يحلموا بها. فأسلم الكثير منهم وما زالت اسماء القرى واسماء بعض الأسر بإسبانيا وجنوب فرنسا مرصعة بحُليّ الكلم العربي. ونشط الطلاب فيهم في النهل من معين هذه الحضارة الجديدة ودراسة اللغة بوجه يتيح لهم الاستفادة القصوى من الدرر الكامنة فيها. فدعت الحاجة الماسة لإقامة مدراس استشراقية للترجمة والنقل بطليطلة ثم انتقل فيروس الحضارة بعد ذاك لأجزاء تالية، إلى جنوب فرنسا وإيطاليا، فما كان من أولئك الأهالي ألا أن أقاموا مدارس العلم والترجمة. وهذه الأخيرة يمكن أن نعتبرها عاملا هاما جدا في توطيد العلم وترسيخ الازدهار لتلك الشعوب وهي من أهم العوامل في تقدمها. وقام فطاحلة اللغة بترجمة أمهات الكتب العلمية من العربية إلى اللاتينية. وترجم الكتاب في الطب لابن سينا واتخذ كأول منهج لتدريس الطب في الجامعات الأوروبية. وكان الاهتمام لأمر الترجمة سلاح ذو حدين: الأول هو النهل من منابع علماء العرب والثاني والذي تبلور بعد عدة قرون من دخول العرب الأندلس، كان يصبو لمحاربة الإسلام – هذا الدين الذين دخل فيه الأوربيون أفواجا. فما كان من رجال الدين إلا أن يوقفوا زحفه. وهنا نرجع مرّة أخرى لدور رجال الدين وأثرهم الهام في هدم الحضارات ونزغ البغضاء والكراهيّة بين الناس.

التلاقح الأدبيّ بين الشرق والغرب.

جوته (من الديوان الشرقيّ للشاعر الغربيّ):

نجمي هو الشرق، إقليم ساطع،

حيث الشمس زاهية كملكة في خيمتها!

قرصها يتنزَه في سماء دائمة الصفاء

هكذا تحمل الأمير ذي بقعة ثرية

على أنغام الناي المقدس

شهرة سفينة ذهب على بحر أزرق

القارئ للأدب العربي الآني عند الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال وعند يحيى حقي في قنديل أم هاشم وعند توفيق الحكيم في عصفور من الشرق ربما يلتمس بعض تداخلات أسلوبية ومهارات سردية جمة تتسم بالازدواج بين العالم العربي والغربي. وهكذا كان حال قدامى الغربيين عندما افتتنوا بالأدب العربي فنهلوا من معينه إلى أن طوروا آدابهم ووصلوا بها إلى درجة العالمية. إن هذا المقال ينشد استخلاص العبر والتدبر فيما كان وما يجب أن نلجأ إليه ونحن في محنتنا الثقافية الحالية. وهل تعلمون أن العالم العربي بأجمعه، من الخليج إلى المحيط، لا ينتج – وإن كان بعضنا لبعض ظهيرا – إلا ٥٪ من الإنتاج الثقافي لدولة إسبانيا فقط، المتمثل شكل المؤلفات بالمكتبات مثلا. وهاهنا أعطى بعض الأمثلة لذلكم التمازج الثقافي والتلاقح الأدبي ولما فعله الغربيون عندما كان إنتاجهم الثقافي لا يصل إلى ١٪ من إنتاج العرب. فأين هم الآن وأين نحن؟

الأدب العربيّ دعم ارتقاء الأدب الغربيّ:

الشعر:

كما نعلم بقيت القافية في الشعر الأوربي (إن جاز التعبير) إلى يومنا هذا دليلاً بينا يرمز لفضل العرب على الأدب. لقد كان اهتمام الشاعر العربي في تكوين قصيدته بقافية رنانة ومقدمة عصماء تشحذ وتشد انتباه المستمع، ملكت على شعراء الغرب ألبابهم، خصوصاً مما تضفيه تلكم القافية من رونق لحني َ على المضمون. فأخذوا يقلدون ألوان الشعر العربيَ. فالزجل فن من فنون الأدب العربي ذاع في الأندلس ومنها انتقل إلى جنوب فرنسا وكانت نتيجة هذا الامتزاج الأدبي ظهور شعر الشعراء الجوالين أو شعراء التروبادور في إسبانيا ومنهم من كانوا يكتسبون لقمة العيش في الطرقات بإنشادهم الأشعار على أنغام الموسيقى. والجدير بالذكر أن الأغاني التي كان يتغنى بها هؤلاء الشعراء توحي من حيث موضوعاتها وأساليبها وطريقة إنشادها بأنها من أصل عربي. فنحن نجد كثير من التماس الأدبي في موضوعات الحب العذري والحنين إلى الحبيب مما نجد أصوله في قصص الحب العذري عند عنترة وقيس من القدامى وعند ابن زيدون وعند ابن حزم الأندلسي في ” طوق الحمامة في العشق والعشاق “. وأخيراً يجب ألا ننسى أن ابن غزمان أشهر الزجالين في الأندلس كان معاصراَ للأوائل من شعراء التروبادور.

فن القصة:

أما فيما يتعلق بفن القصة، فكانت القصص الحيوانية الذائعة في العالم الإسلامي آنذاك فناً من الفنون التي لم تعرفها الآداب الأوروبية فاقتبستها وصارت فنا من فنونها وتطورت بعد ذلك. وقد ساعد على نقل هذه الأقاصيص التجار والرحالة وطلبة العلم والمترجمون، فبفضلهم وبفضل أدباء المسلمين تعرَفت أوروبا على قصص الخرافات الحيوانية ككليلة ودمنة عبر اللغة العربية ونقلاً من الأصل الهندي “باشا تنترا” إلى الفارسي فاستوحى منها الأديب الفرنسي لافونتين قصصه الخرافية المعروفة ب “لي فابل دو لا فونتين”.

ومن المدهش أن أهل الغرب ذهبوا إلى نطاق وعر آخر وحاولوا فك طلاسم فن المقامات التي نعرفها في الأدب العربي عند بديع الزمان الهمذاني وعند الحريري. لقد اشتهر فن المقامات كما نعلم بشخصيات معروفة كالحارث بن تمَام. فظهر في القرن السابع عشر في الأدب الإسباني فن يشابه فن المقامات لأبعد الدرجات، فالبطل يتمتع بصفات بطل المقامات الحريرية أو الهمذانية بذكاء شيطاني في ابتداع الحيل وخلق الألاعيب لكسب الرزق، فبطل المقامات الإسبانية، إن صح التعبير، يدعى بيكارونPicaroon   وهو متشرد يكسب رزقه عبر الحيل. لقد وجد هذا الفنّ رواجا وقبولا كبيرا عند أهل الغرب سيما في شبة الجزيرة الإبرية.

وفي فن القصة القصيرة لم يتوانوا في التهام كنوز الأدب العربي. فمن القصص التي ذاع صيتها ووجدت رواجاً فائق المدى، هي قصص ” ألف ليلة وليلة ” والتي ترجمت في فرنسا بين عامي ١٧٠٤ – ١٧١٧ وظل المؤلفون يعتمدون عليها في أعمالهم الأدبية. من جهة أخرى نذكر أن من الأدباء الألمان الذين تأثروا بهذه القصص هوجو فون هوفمانستال والشاعر جوته والأديب ريلكه. وكان نجاح هذه القصص يقوم على أنها ملأت مخيَلة الأديب الأوروبي بخيال خصب وأفكار فردوسية نقلته من واقعه المرير الممتلئ بالحروب والصراعات الكثيرة المعروفة إلى حلم بديع ينبض بصورة خيالية سحرية جنونية فكانت القصص عبارة عن نافذة تطلَ على عالم بديع يتسنى لكل ظمآن أن يشفي عليل خياله منه. ويستشهد المستشرق الإنجليزي وارتون في كتابه تاريخ الشعر الإنجليزي الذي نشر عام ١٧٧٠ أن الحركة الرومنطيقية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر التي حملت أفكار تعبر عن الخيال والقلب والشعور وإدراك الجمال بدلاً من الحركة الكلاسيكية التي اعتمدت على العقل والمنطق، هي بلا ريب، نتاج عربي خالص. وأن قراءة الكوميديا الإلهية لدانتي تشهد بتأثره بالتراث الإسلامي العربي. أيضاً نجد نفس الأثر عند فيكتور هيجو في مقدمة ديوانه الشرقيات ولقد تعرض الكاتب في ديوانه هذا لذكر الحياة الشرقية ومدن الشرق كما في القصيدة التالية:

وللحديث تتمة.

لقاء الشرق والغرب الحديث … لقاء الأنداد بعد طول فراق:

التقى الشرق بالغرب على فترات متباعدة دامت في مجملها القرون الطوال، ابتداءً بحملات الأغريق تجاه البلاد العربية مرورًا بغزو الأندلس ومن بعده الحملات الصليبة وفي نهاية المطاف حملة نابليون بونابرت واللقاء الذي ولّد النهضة. يجدر بالذكر أن كلّ تلك اللقاءات عدا اللقاء الأخير كانت لقاءات الأنداد وتغير الحال في العصور الحديثة فالتقى الشرق بغربٍ جديد، أقوى وأعلم منه في كل المجالات، وتلك الأيام داولتها السنون بين النِّدين (وتلك الأيام نداولها بين الناس). أحدث لقاء الشرق بالغرب الناهض إذذاك حالة اكتئاب حاد في دخيلته، كيف لا وهو يتقابل بعد طول فراق بندٍّ أشعل نيران الثورة الصناعية وحثّ خطاه في مجالات التقدم العلميّ والارتقاء الجيوسياسي حثًّا وحتى العسكري ذلك بنهاية القرن الثامن عشر الميلادي. نجد بعض روّاد النهضة قد واكبوا هذا اللقاء التاريخيّ وعبروا عنهم في كتابتهم أبلغ تعبير بأجمل تقدير، منهم على سبيل المثال خير الدين التونسيّ، جمال الدين الأفغاني، فرح أنطون، رفاعة رافع الطهطاوي، محمد عبده وقاسم أمين. أفلت شمس تلك الحقبة في تقديري في منتصف القرن العشرين بين خمسينياته وستينياته في عهد الجنرال جمال عبد الناصر عندما قام هو وبعض الضباط تحت قيادته بالانقلاب على العصر النيابي الليبرالي في عام ١٩٥٢. 

لماذا تأخر الشرق عن ندِّهِ؟

غاب الشرق بعد هزيمته النكراء بالأندلس من قبل جيوش الفرنجة متقهقرا إلى شمال أفريقيا منقسما في جسمه إربًا إربًا باكيا حانقا على ما تركه من تاريخ، مجد، وحضارة على أعتاب الحمراء. وبدأ العد التنازلي في الانحطاط المعرفي والحضاري على حد سواء ينتشر ويبعث حالة اكتئاب نفسي جمعيّ في كل أرجاء الوطن العربي مما دعا رواد النهضة بعد قرون في طرح تساؤل جرئي وجدير بأن نقف عليه، إذ أنه لا يزال يطرح نفسه في كل لحظة: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم الغربيون والمسيحيون؟ وفي هذا السياق من التساؤلات الجوهريّة والتي يعدها البعض فرعية هي قضية المرأة!

كيف كان وضع حواء الاجتماعي، السياسي والشرعيّ؟ هل اتخذ حيزًا مهما في عقول كل هؤلاء الرواد من الرجال؟ هل تنوعت أساليب طرحهم وطرق تحليلهم بشأن قضيتها؟ هل كان بينهم محافظين على شاكلة الفكر السلفيّ الحاليّ؛ مثال أولئك الذين يرون أنها ناقصة عقل ودين وأن لابد لها أن تظل حبيسة منزلها وسجنية تبعيتها للرجل. هل كان هناك مجددين يرون أن حواء إنسان مثل الرجل، يجب أن تتساوى معه في الحقوق والواجبات، الممارسات الاجتماعية وأن لها في كل دأبها الحريّة المطلقة في تقرير مصيرها. كتب قاسم أمين كتابين (تحرير المرأة والمرأة الحديثة) وكانا مرافعتين منصفتين لها. ويرى مارون عبود أن قاسم أمين لم يكن أول من انطلق في مسيرة تحرير حواء، فكان هناك من أدباء ومفكريّن ترك قد سبقوه في المجال فضلا عن أحمد فارس الشدياق في دعوته إلى حريّة المرأة. وجاءت بعض الكتب تندد بما كتبه قاسم أمين رانية إلى تصويب الأمور وإرجاعها ألى نصابها الشرعيّ الإسلامي، فجاء كتاب (المرأة المسلمة) لمحمد فريد وجدي ردًّا على كتابيّ قاسم أمين. وانقسم المفكرون بين مناصر ومعارض وكانوا شقين، شق يرى في تحرير حواء أمر لا مناص عنه والآخرون أن تحريرها في العرف والعادة والشرع القويم. لذلك جاء شوقي في مرثيته لقاسم أمين مناصرا ومؤيدً له ولأفكاره: جهلوا حقيقته وحكمة حكمه فتجاوزوه إلى أذى وضرار. لذلك أرى أن من أهم الأسباب الجوهريّة في حدوث النكسة والتقهقر المعرفيّ هي عزل المرأة في الشراكة ودفع عجلة النهضة مع الرجل. ولنا في الحديث عودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق