سلايدرسياسة

التاريخ السياسي لأثيوبيا في القرن العشرين (2)

طلال الناير

قام  الجنرال (مَنّغْسِتو هيلِامرّيام) بتنظيم إنقلاب عسكري أسقط به حكم الإمبراطور الذي إستمر لمدة 45 سنة، وأسقط الحكم الملكي الذي دام لأكثر من 1200 سنة. قام الإنقلابيون برفع شعار (إتيوبيّا تَكّدْم) في كل أركان الدولة الجديدة، والذي يعني باللغة الأمهرية (إثيوبيا أولاً). الجنرال الجديد كان متأثراً بفترة الإحتلال الإيطالي لإثيوبيا فقام بتقليد نظام (بنيتيو موسيليني)، فإقتبس الـ(درغ) الإثيوبي التجربة الفاشيستية الإيطالية؛ إبتداءً بالشعار وإنتهاءً بالأساليب. قام ضباط من الجيش الإثيوبي بقراءة بيان الإنقلاب علي الإمبراطور في قصره، وبعدها تم إقتياده لركوب سيارة (فولوكس ڤاغن) زرقاء اللون، فتعجب من حال السيارة وقال لمرافقيه: «أنا مُرسل من السماء، كيف لكم أن تجعلوني أركب سيارة مثل هذه؟ عجباً…». لم يدر (هيلاسيلاسي) بأن رحلته بالسيارة الزرقاء ستكون الأخيرة، ليموت بعدها الإمبراطور بطريقة تراجيدية ويدفن تحت مقعد التواليت الموجود في قصره. قام بعدها (منغستو) بإعدام ستين من رموز حكم الإمبراطور رمياً بالرصاص.

عندما سمع الشعب عن الطريقة التي أُعدم بها الإمبراطور وقادة حكمه أدرك البعض بسرعة إن الجيش قد إختطف الثورة التي قامت بالمطالبة من أجل الديموقراطية والحقوق المدنية. وكما بدأ نظام الـ(درغ) عهده بالدم، مواصلاً المسير علي هذا النهج حتي النهاية. إبتدء (منغستو)؛ كعادة أغلبية الإنقلابيين، بتصفية الذين شاركوه في إنجاح الإنقلاب حتي أصبح وحيداً في قيادة الجيش وقيادة الـ(CoEWP / WPE). لأسباب عديدة يطول شرحها قام العديد من المؤرخين الغربيين بتجاهل الصراع الذي نشب بين التنظيمات الماركسية الإثيوبية بعد نجاح الثورة ضد الإمبراطور وذلك من أجل الضغط علي المعسكر الشرقي أثناء الحرب الباردة بإدعاء إن الإنقلاب تم بإتفاق كل الشيوعيين الإثيوبيين، والبعض يّفضّل أن يجعل وصول (منغستو) للسلطة نتيجة حتمية لكونه قائد الإنقلاب العسكري. ولكن الحقيقة أن الماركسيين الإثيوبيين من المدنيين كان لهم دور حاسم في إسقاط الإمبراطور، والـ(درغ) قام بإختطاف نضالاتهم وسرقة الثورة.

تأسس حزب (إتيوبيا هزبوي أبيوتاوي بارتي)؛ أو حزب الشعب الثوري الإثيوبي ذو الإيدولوجيا الماركسية والذي يتم إختصاره في لغة الأمهرا بـ(إهابا)  في أبريل من العام 1972 علي يد (تسّفاي ديبيسّاي)، ومن إقليم الأرومو أسس (هايلي فِرّدا) حركة (مِيلّا إتيوبيا سوسيالست إنكوينكي) والذي يُختصر بحركة (ميسون)، وباللغة العربية تعني (حركة كُلّ إثيوبيا الإشتراكية). أدت الإختلافات الإيدولوجية بين  الماركسيين في (إهابا) و(ميسون) عام 1976 مع نظام (منغستو) إلي بداية عهد الرعب الأحمر. الكاتب (ديفيد أوتّاواي) يذكر في صفحة 187 من كتابه الهام (إثيوبيا: إمبراطورية في خضم ثورة) أن حركة (مِيلّا إتيوبيا سوسيالست إنكوينكي) تعاونت مع نظام الـ(درغ) في قمع رفاق النضال من حزب (إتيوبيا هزبوي أبيوتاوي بارتي) وذلك بالمشاركة في عمليات التصفية الجسدية والإعتقال الجماعي، ولكن (منغستو) قام الإنقلاب عليهم وشن حملة دموية عام 1978 إنتهت بإبادة قادة حركة (مِيلّا إتيوبيا سوسيالست إنكوينكي) وإعتقال أغلبية الأعضاء وتصفيتهم جسدياً.

كان الإمبراطور (هيلاسيلاسي) يستقوي علي شعبه بواسطة الجيش، وسلاح الدين. أما (منغستو) فكان يستقوي أيضاً بالجيش، بالإضافة إلى السلاح السوفييتي الذي جعل الجيش الإثيوبي الأضحم تسليحاً في أفريقيا. قام (منغستو) بإستخدام الإيدولوجيا الماركسية كغطاء لعمليات القمع المنهجي ضد المعارضة الماركسية. يا للمفارقة. كانت ساحة (مَيسّكل إسكوير) تحتشد دوماً بالدبابات السوفييتية التي تذهب بعد إنتهاء العروض العسكرية لقصف المدنيين في الأرياف ولسحق المقاومة الأرترية المسلحة التي بدأت منذ العام 1961. التسليح السوفييتي لنظام (منغستو) جعله في حالة حماس وثقة لحوض الحروب مع الثوار الإرتريين وضد نظام الرئيس الصومالي (سِياد برّي) في إقليم أوغادين. كانت الأموال السوفييتية تُضخ في خزائن الجيش وبفضل المساعدات العسكرية من كوبا وكوريا الشمالية صعد الضباط والجنود قمة الهرم الإجتماعي والإقتصادي في البلاد بينما الأرياف كانت تضربها المجاعات والفقر.

طلاب المدارس الثانوية قاموا بتكوين حركة (زامبييشا) التي ضمت 60 ألف شخص للإحتجاج ضد نظام (منغستو)، حيث كانوا يقومون بإقامة إعتصامات سلمية ضد النظام الفاشيستي الذي قابلها بموجة إعدامات وإنتهاكات لحقوق الإنسان وصلت ذروتها في عامي 1977 و1978، حيث قدّر تقرير لمنظمة (إمنستي إنترناشونال) إن نصف مليون شاب وشابة وطفل قتلوا في المعتقلات وحقول الإبادة الجماعية. متحف ضحايا الرعب الأحمر محتشد بصور الآف القتلى، والذين كانوا أحياناً من أسرة  واحدة، وفي بعض الأحيان كان القتلي أطفال تقل أعمار بعضهم عن العاشرة، ووصل الأمر بجنود الجيش الإثيوبي على إجبار الضحايا على دفع نقود حتى يتم إسترداد ثمن الرصاص الذي سوف يقتلون به.

عقب ذلك ظهرت حزب الشعب الإثيوبي الثوري أو الـ(EPRP) وقد إنبثق من بقايا حزب (أهابا) الذي تم تدميره، تأسس الحزب في مدينة برلين الغربية على يد (كييفلو تدسي)، (تِيسفاي ديباسّاي)، (بِرهاني مِسْكِل ريدا)، وهو حزب ماركسي وقد إعتبر بأن (منغستو) لا ينتمي للماركسية بأي حال من الأحوال، فهو يرفع شعارات قومية متطرفة (شعار إثيوبيا أولاً)، ويتدثر بالشيوعية ظاهرياً لكي يكسب ود النظام السوفييتي ودعمه. تلقى الحزب دعم التنظيمات القومية المسلحة ذات التوجه الإشتراكي مثل جبهة التحرير الإريترية ELF، والجبهة الشعبية لتحرير التغري TPLF. إعتبره نظام الـ(درغ) حزب الـ(EPRP) بمثابة عدواً للدولة. وقام (منغستو) بحملة شعواء لإبادة التمرد، فبدأت قوات الشرطة بحملات تفتيش دقيقة في كل أنحاء البلاد بطريقة الـ(door-to-door search). كانت نشرة الأخبار المسائية تحتفل بإنجازات الشرطة والأمن والجيش بالتنكيل بالمعارضين، وكانت تعرض في التلڤزيون ماكينات طباعة المنشورات، وتعرض الإذاعة أنباء القبض علي مسلحين. حركة القمع لم تمنع من تنامي الغضب الشعبي علي نظام الـ(درغ) الذي لجأ إلي تسليح المدنيين وإعطاءهم رخصة للقتل في حالة الإشتباه، وأعطاءهم صلاحيات بإقامة محاكم تفتيش في الشوارع وتنفيذ أحكام الإعدام في كل من يشتبه في إنتماءه للمعارضة. طريقة الإعدام كانت تتم فور العثور علي أي منشورات الشخص، وكان الإجراء الروتيني حينها أن يتم تجميع أقرب مجموعة من الناس وإجبارهم علي مشاهدة الإعدام للعظة والعبرة.

وللمزيد من إرهاب الجماهير ظهر الجنرال (منغستو) في التلفزيون وهو يحمل زجاجة من الدم وأطلق خطاباً نارياً يهدد فيه بالموت لكل من يتجرأ علي عصيان النظام الذي أصدر الـ(wanted list) والتي تحتوي علي صور وأسماء  المطلوب القبض عليهم. وخلال فترة حكم النظام من العام 1974 وحتي 1991 سقط أكثر من 2 مليون قتيل، وقد شهدت معتقلات التعذيب فظائع يقشعر لها البدن. كانت تقنية الـ(وفِيلالا) هي المفضلة في سجون أديس أبابا، والكلمة بين القوسين هي طريقة تعذيب يُربط فيها المعتقلين من أرجلهم وأيديهم ويتم تعليقهم في عصا بين كرسيين أو منضدتين، بعدها يتم تظهر السادية المطلقة لأساليب التعذيب؛ حيث يقوم الجنود بالتبول والتغوط في قطعة قماش يتم تكويرها وحشوها في أفواه المعتقلين. الذين يجلدون بسوط مزدوج. في أديس أبابا في العام 2012 إلتقيت بالناشط السياسي (همّبرّو ميكيلّي) الذي قضي ثمانية سنوات من حياته في سجون الـ(درغ)، وقد حكى لي يوميات السجن المرعبة، وكيف كان الجنود يغتصبون المعتقلات بصورة جماعية، وبعدها يقومون بحشر العصي الخشبية في المؤخرة والأعضاء التناسلية بعد وضع الشطة أو الزيت الحار، وفي النهاية يتم قطع الأثداء وترك الضحايا ينزفن حتي الموت.

الجزء الأكثر رعباً من متحف ضحايا نظامي (منغستو) و (هيلاسيلاسي) هو القسم الذي يحتوي علي البقايا البشرية لضحايا التعذيب والإعدامات العشوائية والإبادة الجماعية، مئات الجماجم والآف العظام محشوة في أرفف حديدة تئن من هذا الوزن الثقل، ومن الحمولة الدموية والأخلاقية لهذا التاريخ الأسود. وسط الأعداد التي لا تحصي سيجد الزوار بعض متعلقات شخصية للضحايا كالصلبان والمسبحات، أقلام رصاص وفرش أسنان، لعب أطفال، وأيضاً ميدالية منقوش عليها شعار الشيوعية. أشار مرافقي (همّبرّو ميكيلي) إلي ساعة أحد الضحايا، وتحديداً علي شظية إخترقت زجاج الساعة وظلت عالقة بها. الشظية أوقفت الوقت عند يوم الأربعاء، الساعة الثانية وثلاثة وعشرين دقيقة وتسعة ثواني؛ إنه ميعاد الموت الدقيق للضحية (A 41)؛ وهو الرقم المتسلسل الذي كُتب علي جمجمته. وللمزيد من الدقة، ما تبقي من جمجمته التي لا يوجد منها علي الرف الحديدي سوي الفك الأسفل وجزء من مؤخرة الرأس. بعد سقوط نظام (الدرغ) عام 1991 بدأت إثيوبيا تتعافى ببطء من ماضيها الأليم، إثيوبيا تسير في الطريق الصحيح للإصلاح السياسي، وهو وإن بدا صعباً وطويلاً إلا أنه لا سبيل إلا للتقدم، فتركة الماضي والملايين من جثث القتلى تغلق الدرب على كل من يود تكرار الماضي، فالماضي إذا قد قام سلفاً بتكرار نفسه، ولم يكن إلا قمة في المأساة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق