سياسة

قراءات

مناظرة تاريخية (3)

محمد المنتصر حديد السراج

يتصل حديث الفيلسوف المؤرخ أرنولد توينبي تعقيبا على حديث السفير الإسرائيلي فى كندا الحاخام ياكوف هرتزوج فى المناظرة التاريخية بينهما عام 1961…يقول توينبي.. وهو يتحدث عن المذابح التى ارتكبتها القوات الإسرائيلية..: لقد سمعت وليس هناك من أنكر ما سمعت بعد، إحدى هذه المذابح على الأقل..وهي ذبح جميع السكان المدنيين من الجنسين ومن جميع الأعمار، بقرية دير ياسين غرب القدس، فإن القوات الإسرائيلية المسلحة.. ولست أعلم أكانت هذه قوات حكومية أو إحدى القوات المسلحة غير الرسمية.. طافت بالسيارات تعلن بالعربية في مكبرات الصوت ما نصه (لقد فعلنا هذا لسكان ذلك المكان. فإذا لم تريدوا أن يحدث هذا لكم، فاخرجوا)، ولا ريب في أن جميع السكان المدنيين في منطقة حربية. أو في جو يهددهم بالموت، يتركون أماكن سكنهم، وهم في هذا على صواب.

ومن حسن الحظ أنه بعد استيلاء هتلر على السلطة في ألمانيا فإن أقلية..ومن الأسف أن تكون أقلية فحسب..من اليهود في ألمانيا استطاعت أن تغادر ألمانيا قبل فوات الوقت. وبهذا فلتوا من القتل وإن كانت ممتلكاتهم قد استولي عليها وصودرت. ولا يوجد من يرى أن اليهود الأوربيين الذين خرجوا من ألمانيا في ذلك الوقت قد فقدوا حقوقهم الشرعية في ممتلكاتهم نتيجة استطاعتهم..عن حكمة وبعد نظر..إنقاذ حياتهم وحياة أسرهم بمغادرة البلاد قبل فوات الأوان. ولأضرب مثلا آخر..في سنة 1940 حينما غزا الألمان فر نسا، هرب بضع ملايين من أفراد الشعب الفرنسي من شمالي فرنسا الى جنوبها. لنفس السبب الذي حدا بالسكان العرب في منطقة القتال في فلسطين عام 1948 على الهرب من فلسطين. وليس هناك من يوافق في ظني على أنهم قد فقدوا حقهم في أرضهم وممتلكاتهم وبيوتهم وما شابه ذلك في شمالي فرنسا لأنهم قد هربوا من منطقة القتال. ولو أن الألمان قالوا اليوم:( نظرا لأننا قد غزونا البلاد فإن هؤلاء الفرنسيين الذين جانبهم التوفيق فهربوا من البلاد قد فقدوا حقهم في ممتلكاتهم و أصبحت هذه ملكا مشروعا لنا، وأنه من المخجل و من مجانبة القانون ألا نملكها نحن اليوم) . إن مثل هذا القول يبدوا بالغ السخف والحمق. ولكنكم لا شك تدركون أن إسرائيل إنما تقف اليوم هذا الموقف. فالقسم الأكبر من أرض إسرائيل لا يزال ملكا مشروعا لهؤلاء الفلسطينيين العرب الذين هربوا من فلسطين خلال الحرب بين الدول العربية خارج فلسطين وبين القوات الإسرائيلية. والممتلكات التي تملكها إسرائيل شرعا هي ما اشترته خلال الثلاثين سنة التي انقضت تحت الانتداب، وقبل هذا، فإن أول مستعمرة زراعية يهودية تعود في ظني الى عام 1870 وهي مستعمرة روتشيلد. لقد دفع اليهود ثمنا طيبا لهذه الأرض ولذلك فهي من الناحية الشرعية والأخلاقية ملكا لهم. ولكن هذه الأراضي لا تشكل إلا نسبة ضئيلة في المساحة الكلية لأرض المنطقة، التي تملكها إسرائيل اليوم. أما الجزء الأكبر من الأرض، كتلك البيوت والممتلكات المنقولة والكروم وأشجار الفاكهة وما شابه ذلك فلا تزال ملكا قانونيا مشروعا للاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون اليوم خارج ديارهم، و في حالات كثيرة على مرأى من ديارهم. إنهم يعيشون في ظروف تحيطها التعاسة، ويشملها اليأس الآن.

وأحب أن أبدي ملاحظة عامة لا تتصل بالطبيعة البشرية العربية أو الطبيعة البشرية اليهودية فحسب، بل بالطبيعة البشرية التي نشترك فيها جميعا، وإني إذ أقول (نحن جميعا)، أبدأ ببلدي فأقول إن من أسوأ نواحي طبيعتنا البشرية أنه كلما وقع علينا ظلم أو ألم أو شر، ملنا، وميلنا هذا من النوع اللاإرادي بل هو رد فعل سيكولوجي، لأن نوقع الظلم الذي كابدناه بمن هم أضعف منا.

ولأضرب لكم مثالا من التاريخ الحديث لبلدي. في الحرب العالمية الثانية تعرضت بلادي بريطانيا لغارات جوية عنيفة. فماذا فعلنا نحن ولم تمض إحدى عشرة سنة على هذه الواقعة؟ لقد انتهت الحرب في 1945 وفي سنة 1956 ضربنا بالقنابل في هجوم عدواني، مصر دون إعلان حرب وقد أداننا العالم لاقترافنا هذا العمل. لقد ضربنا شعبا بريئا، ولعلنا قتلنا أكثر من ألف إنسان برئ. ولعلهم كانوا أكثر ممن ذبحتهم القوات المسلحة الإسرائيلية من المدنيين العرب الفلسطينيين في سنة 1948 خلال الحرب بين الإسرائيليين والدول العربية. هذه مأساة الطبيعة البشرية. والمأساة الحقة هي أن شعبا تألم ومر بالألم يقوم بإنزال هذا الألم بشعب آخر. ولما كانت مخيلة الإنسان شيئا يتحرك ببطء فإنه من العسير علينا أن ندرك معنى معاناة هذه الأمور. ولكن الشعب البريطاني بطبيعة الحال قد قاسى خلال حرب واحدة هذا الضرب بالقنابل لسنين قليلة ولكن الشعب اليهودي عانى القتل والنهب والطرد من دياره، ليس لسنة واحدة أو سنتين فحسب، ولكن مدى قرون طويلة تمتد الى ألفين خمسمائة سنة. وكلما ازدادت خبرة الإنسان بما تعنيه هذه الأمور، كلما زاد التزامه أدبيا في ألا يقترفها هو نفسه. ولا شك أن هناك اغراء له بأن يقترف نفس الظلم الذي وقع عليه.  ولكن الواجب الأدبي هو في مقاومة هذا الاغراء.

هرتزوج:

هل تسمح يا سيدي الأستاذ بأن ألقي عليك بعض الأسئلة؟

توينبي:

هل تسمحون لي بأن أضيف نقطة واحدة يا سيدي؟

إن هناك جانبا فريدا لهذا التشبيه الذي عقدته.  أني آمل أن أكون قد شرحت الآن بقدر ما أستطيع من دقة ما يدور في خلدي تجاه هذه المسألة عندما عقدت هذه المقارنة. ولقد دهشت لعنف رد الفعل الذي أثارته ملاحظاتي هذه بين المجتمع اليهودي. وإذا كان الرأي بينهم هو أن هذه المقارنة مما لا يقبله العقل، ويبدو أنكم ترون أيضا مثل هذا الرأي ، فلم لم يكن ردكم ( هذا إنسان أبله يلقي بقول أبله. فلماذا نهتم بالأمر؟ فلنتركه وشأنه). على أن رد الفعل لم يكن كذلك. لقد كان كما تعلمون، شديدا للغاية. وسأقول هنا قولا قد يبدو موضع جدل. أقول إني بعقد هذه المقارنة ، عن غير قصد قد عرضت الشعب اليهودي لما يطلق عليه علماء النفس(العلاج بالصدمة) لقد قلت بصوت عال وبكلمات مزعجة بعض ما تقوله ضمائركم ، ما يهمس به كل من ينتمي منكم للمجتمع اليهودي في العالم(ضحك من الجمهور) و الآن فليخفت صوتي بعض الوقت في طيات نفوسكم ولتسمعوا صوتا آخر يقول.. وهذه ليست كلماتي بل كلمات شخص آخر: (أنا على يقين أن العالم سيحكم على الدولة اليهودية بما ستفعله للعرب). هذه كلمات رجل اشتهر بينكم شهرة كبيرة هو حاييم وايزمان (الذي كان لي شرف التعرف إليه حينما كنت شابا) الذي كان أول رئيس لجمهورية إسرائيل، وقد قالها، فيما أعلم، أو كتبها عام 1949 بعد الحرب بين الدول العربية وإسرائيل، وحينما كان دكتور وايزمان أول رئيس لإسرائيل. وسأطلب إليكم لذلك ألا تسمعوا صوتي، بل ألا تسمعوا صوت الدكتور وايزمان بل استمعوا الصوت الداخلي الذي يهمس في ضمائركم. ولا أظن أن أي إنسان يستطيع أن يهرب من ضميره. بل أكثر من هذا أني لا أعتقد أن يهوديا يريد أن يهرب من ضميره. ورأيي أن مجد اليهود منذ عصر الأنبياء، وربما قبل هذا، أن في كل الخلافات التي كانت بين اليهود وبعضهم البعض أو بين اليهود وبقية العالم، كان يقوم دائما من بينهم من كان يملك العمق الروحي والشجاعة الأدبية فينتقد شعبه. ولولا كتابات النقاد اليهود لما عرفنا ألوان النقد التي كان يشكو منها اليهود في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. ولذلك أقول : (كونوا نقاد أنفسكم فهذا أعظم تقاليدكم). ولذلك فإني أترككم لضمائركم وأمام رؤية هؤلاء اللاجئين العرب الذين بلغ عددهم اليوم تسعمائة ألف نظرا لكثرة عدد الأطفال الذين ولدوا في المنفى.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق