سياسة

خارج المتاهة

الأزمة وآفاق المخرج

محمد عتيق

حركات التغيير الكبرى، الثورات العظيمة عبر التاريخ، تتعرض دائماً للاختبارات القاسية، تتوالى عليها المشكلات فتمسك بخناقها وتكاد تبعث اليأس في بعض أطرافها وجمهورها؛ مشكلات موضوعية تبرز من الواقع ومن القوى المدحورة وحلفائها، وأخرى ذاتية تتعلق بالقوى القائدة للتغيير في شكل تنافس سلبي ذاتي بين أطرافها أو إن شئت هي التزيد والاستعراض وروح “المكاوشة” (دون التقليل من وطنية أحد)، وكلها من الصفات التي علقت بها من الواقع المتخلف المريض الذي استوجب الثورة. ولا شك أن ثورة ديسمبر السودانية واحدة من تلك الحركات العملاقة، من آيات عظمتها هذا المخاض الذي تعيشه وأوجاع الطلق التي تحف بها، مخاطر كبيرة تتناسل منها مخاطر.

بعد التطورات المعروفة في المسيرة حتى لحظة التوقيع على الوثيقة الدستورية وما رافق صياغتها، هجم المكون العسكري (اللجنة الأمنية للنظام الساقط) على المجلس السيادي دون أي اعتبار لدوره وتوصيفه المرسومين في الوثيقة الدستورية، فرض نفسه رئاسةً للجمهورية، ابتدع وظيفةً باسم النائب الأول للرئيس، أعلن لجنةً للسلام بإشرافه، ولجنةً للطوارئ الاقتصادية تحت رئاسته، وعلى لجنة التفكيك واسترداد الأموال المنهوبة فرض رئيساً منهم، وليتمكن من حماية أركان النظام الساقط (أولياء نعمتهم) هيمنوا على مؤسسات العدالة المختلفة. ثم لم يتردد في أن يضع يده على واحدة من أهم اختصاصات الحكومة (العلاقات الخارجية) وسرعان ما التقت اهواؤه مع مصالح دول الجوار وأهواء الإدارة الأمريكية التي فرضت التطبيع مع “اسرائيل” شرطاً لرفع اسم السودان من قائمة الارهاب الأمريكية جزءاً من حملتها لكسب رضى اللوبي الصهيوني في انتخابات الرئاسة..

من الجانب الآخر، الإقرار بضعف الحركة السياسية في بلادنا وذاتية التنافس بين أطرافها و..و.. إلى آخر سلبياتها، كل ذلك لا ينفي أن الأحزاب السياسية في السودان قد واجهت النظام الساقط منذ صبيحة انقلابه في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، مواجهةً متصلةً، صمدت في معتقلاته ومراكز تعذيبه الرهيبة، احتملت التشريد وألسنة المنافي الحارقة، قدمت الشهداء بسخاء، واستطاعت أن تبني أوسع تحالف سياسي ونقابي آنذاك تحت اسم “التجمع الوطني الديمقراطي”.. وعلى قواعد هذه التجربة كان التقاء كتل المعارضة المختلفة في ديسمبر ٢٠١٨ وصياغة “إعلان الحرية والتغيير” دليلاً، و “قوى الحرية والتغيير” (قحت) حلفاً جبهوياً استندت عليه الأجيال الجديدة في التقدم بالثورة حتى سقوط النظام.

فإذا كانت الاحزاب السياسية هي التي قادت المواجهة ضد النظام الساقط طوال أعوامه الثلاثين، وأنتجت تراثاً نظرياً وعملياً في ذلك، فإن الأجيال الجديدة هي أداة الثورة ووقودها والتي أضافت إلى ذلك الموروث تجربةً جديدةً في تاريخ الثورة السودانية المعاصرة هي تجربة (لجان المقاومة) التي تقول طبيعتها الواضحة أن فكرتها قد انطلقت من استيعاب لدروس الانتفاضات الشعبية السابقة وتجاربها في اكتوبر ١٩٦٤ وأبريل ١٩٨٥ واخفاقاتها، أي وقوفها عند اسقاط النظام العسكري الدكتاتوري وعدم تطورها إلى ثورة.. فأصبحت حارسةً للثورة ولمصالح الشعب رهن إشارة الثورة تعيد تصويب الأمور عند اللزوم..

الثورة تستهدف تحرير الشعب والارض ونشر السلام وإقامة العدالة، وهي بذلك لا تكون ضد النظام الدكتاتوري القائم فحسب وإنما أيضاً ضد قاعدته الاجتماعية والطبقة الرأسمالية والطفيلية التي يرتكز عليها، إضافةً إلى شبكة المصالح والعلاقات التي تربط ذلك النظام ورقعته الجغرافية بالمحيط الإقليمي والدولي، ولذلك كانت هذه الشبكة تراقب تطور الثورة جيداً وبدأت تنشر نفوذها قوةً خفيةً تتحكم حتى في بعض خيارات الثورة والثوار، وتأتي بممثلي أطرافها في حكومة الثورة نفسها مع تشديد الهيمنة على الخدمة المدنية بما فيها تعيين السفراء ومجلس إدارة البنك المركزي للبلاد ..

النتيجة الشاخصة عن كل ذلك:

-المكون العسكري يتغول أكثر وأكثر، ومن ورائه لا زال النظام الساقط يتحكم في مجريات الأمور من خلال دولته الموازية اقتصادياً وعسكرياً وإدارياً من خلال سيطرته التي لا زالت على الخدمة المدنية.

-والحكومة ضعيفة وتزداد ضعفاً كل يوم.

الأزمة داخل “قحت” أساسها أن الأحزاب المهيمنة على “مجلسها المركزي” تسيطر على كل مناشطها وتقتسم النفوذ والمناصب فيما بينها، بينما توجد أحزاب أخرى ساهمت في معارضة النظام وفي صياغة “إعلان الحرية والتغيير” ودعم تجمع المهنيين في تحويل مذكرتها المطلبية الاحتجاجية إلى مذكرة سياسية تطالب النظام بالرحيل، ورغم كل ذلك تجلس على الرصيف..

-الجميع ينادي بإصلاح قحت عبر مؤتمر.

– حزب الأمة القومي يقدم رؤاه في مقترح ويقف بعيداً.

– الحزب الشيوعي يستقيل من قحت ويمضي.

– الأزمات تشتد في جبهة الثورة، بينما النظام الساقط ينتعش وصوته يرتفع باضطراد، فماذا فاعل مركز الثورة ؟

الاستقالات، سحب التأييد والاعتراف، هل هي الحلول في مواجهة الدولة أو الدول الموازية وتقود الثورة إلى مشارف النصر؟

لماذا لا يذهب الجميع إلى مؤتمر يصلح “قحت” ويعيد لها قوتها وألقها وتفرضها حاضنةً حقيقيةً ومرجعيةً سياسيةً للحكومة وللثورة..

ولماذا لا تذهب القيادات الحالية لأحزاب المجلس المركزي لقحت إلى المعاش ومقاعد الخبراء والمستشارين، ويتركوا قيادة الاحزاب وتحالف “قحت” لصف جديد من القيادات الشابة تنسجم أكثر مع العصر ومع الأجيال الجديدة وطموحاتها، مع لجان المقاومة تنظيماً وتوزيعاً للنشاط والمناشط الإدارية والخدمية المختلفة، انسجاماً في الاحلام، شباب يستطيع قيادة الحكومة وفرض ارادة الشعب على المكون العسكري وحلفائه في المنطقة..

لا اعتقد أن القيادات الراهنة المعنية عاجزة عن سماع النداء: تنازلوا لمصلحة الشعب والوطن ولمستقبل الأجيال الجديدة، تذكروا التاريخ وفي أي صفحاته تريدون الذكر.

(هنالك تكرار فرضته المخاطر المحدقة بالثورة، فالمعذرة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق