ثقافة وفن

قيود في نطاق محدود! وقطوف من حدائق الحياة

يوسف بولجراف

١ القيود

ذلك  ما تشعر به الروح في احتواء الجسد لها حين لا تنسجم تركيبتها مع المحيط الخارجي المحكوم بالزمكان ، ضيق واختناق، شئ بداخل الانسان مسجون، تلك الراحة التي تنشدها الروح غير متوفرة، هو نفس ارتباط شجرة بتربة وجو غير ملائمين فتصبح غير قادرة على الانعتاق فتضطر للتأقلم مع المحيط من أجل البقاء، وفي البقاء انتصار أيضا،لكنه انتصار بدائي جدا خال من طعم السعادة بقاء من أجل البقاء وفقط ،مع أن وجود الانسان أسمى من ذلك بكثير، لذلك تجد روحه سجينة مكبلة حتى وإن كان الجسد مادتها الذي به تتصل بهذا الوجود، لكنه يظل عائقا طالما يخضع لمؤثرات خارجية مادية بحثة ،فتصير الروح كذلك الترباس أو البرغي الذي نحاول تثبيته بغير مكانه عنوة، قد يبدو متماسكا في البداية لكن الفجوة ستتسع مع الزمن فيتخلخل التركيب كله ويتصدع .

إن أكثر ما يرهق الروح هو تقيد الانسان ببرامج سُطرت له منذ البداية بعيدة كل البعد عن اختياره وطموحه، برنامج اسمه „مايجب أن يكون“ وعليه أن يُتّبع بحذافره ليمكنه من الانضمام لقافلة الناجحين الذين يباركهم المجتمع والوسط الخاضع بنفسه لهذا البرنامج، وكل من يخرج عنه يصير في الهامش. لقد أصبح السعي لتحقيق النجاح بمفهومهم سببا في حالات القلق والتوتر والخوف الذي نعيشه في هذا المجتمع، قلق يقض المضاجع ويسلب متعة العيش، فوفقا لذلك البرنامج عليك أن تُجدّ في تحصيل العلم ليس من أجل المعرفة بل لنيل شهادة تخول لك وظيفة لا يهم إن كان ما تريده حقا فأي وظيفة كفيلة بإنجاح البرنامج المسطر ودمجك في ماراطون الحياة ليصبح كل نجاح يتطلب نجاحا أكبرلأن من في المقدمة يستفزونك، ربما سبقوك لأن برنامجهم كان مدعما من الكبار،لم يجهدوا أنفسهم ليحققوا النجاح فتضظر لمضاعفة السرعة كي تلتحق بالركب واللجوء إلى القروض ،قروض من أجل السكن ومن أجل حفل الزفاف ومن أجل تدريس الأبناء… كلها حلول صنعوها لك لتنجح في برنامجهم ، ليصفقوا لك أخيرا لبلوغك الاستقرار، بينما الروح كل ما تنشده هو السكينة، وبين الاستقرار والسكينة مسافات ضوئية. نعم قد تحقق النجاح الذي رسموه لك لكن هل كان كافيا لتشعر بالرضى خاصة حين نتجاهل ما تحبه الروح بخضوعنا تحت قانون „ما يجب أن يكون‘ فالروح ليس لها قدرة على فرض طموحها والانتفاض في وجوهنا لحثنا على تغيير المسار، وكل ماتفعله هو أن تبهث مع الزمن وتتوارى تاركة كل المجال لجنوننا، لكن قد تبعث لنا من حين لآخر رسائل وإشارات لنستيقظ من غفلتنا ،فتوشوش لنا سرا: هل هذه هي غايتك حقا؟ هل هذا ما تستحقه حياتك؟ وهل هذا ما تسطره لأبنائك؟ فتنتبه لوهلة كم كنت مجحفا في حق روحك بإغفالك لطموحها وكم كنت سجينا لنمطية المجتمع كسجنك لروحك الرفرافة في عقل ممتثل لهذه النمطية… نكتشف أننا أكبر مغفلين في الوجود حين سمحنا للآخرين بتسطير برنامج حياتنا بتبعية جافة قاتلة لروحنا مسممة لبدننا، لنفهم أخيرا سبب عنائنا وتعاستنا، فيا ترى كم من روح سجينة ومعذبة في هذا الكون الفسيح؟ قليل منها من يسعد حقا هذا إن وُجدت في تربتها الحقيقية ونبتت طيبة وحققت انطلاقتها بغض النظر عن القالب المادي الذي يحملها فأي روح لأي كائن حي يمكنها أن تسمو وتتألق إن كان الكائن مُسبحا سواء كان انسانا نباتا او حيوانا أو حتى جرثومات مجهرية ،فكل من يسبح باسمه يحرر روحه ويطلق سراحها.

2 القطوف

وجودنا في هذه الحياة تحدي في حد ذاته و أجمل تحدينا هو الصمود و عدم اليأس و الإستسلام ،و رغم أن الإنسان ضعيف مهما كانت قوته تأتي عليه أوقات ينهار ، يصرخ ، يبكي لكنه يظل صامدا في بحر الحياة مهما كانت عواصفه ، ينساق مع الرياح أحيانا ، يجرفه التيار أحيانا أخر  لكنه يظل شامخا شموخ الجبال مادام سلاحه دائما الإيمان بقدرته عز و جل و أن من خلقه هو من يمتحنه ، يزداد صبرا و قوة و يقدر على تغيير المسارات ، إيمانه بأن وجوده في تلك الظروف ليس إلا إحدى التجارب و إمتحان من الله ، الإنسان السوي يعلم جيدا أن لاشيء يدوم حتى الظروف نفسها و الأكثر حكمة  يستخلص العبر من كل الدوامات ، كثيرا  من الصعوبات و المشاكل هي أصلا و رغم عابريتها لا وجود لها ، بالرغم من أنها تظهر لنا حواجز في طريقنا و منا من يلجأ لإخصائيين أو ذوو الحكمة و الخبرة في الحل ! و هي فقط تحتاج لتصحيح رؤى ، و معالجة نظرتنا لمسار حياتنا ليس إلا ، أي من داخل أنفسنا ، و كثيرة هي القصص الواقعية التي تظهر لنا مدى صمود الإنسان رغم وجوده في عين العاصفة ، لأنه انساق و ترك التيار يأخذ مجراه الطبيعي ولم يرد أن يسير ضده و في الوقت المناسب عرف كيف يسلك المجرى الصحيح لأنه عرف كيف يعود إلى نفسه فيسحبها و تمكن من إمساك إحدى خيوط النجاة من قلب الدوامة حتى وجد الطريق الصحيح ؛ و مادام  الإنسان على مركب بحر الحياة لابد له من تغيير إتجاه مساراته  دوما و لو بدون رياح أو عواصف سبيله في ذلك عقله أولا و مايمليه عليه ضميره ، ثم  كل ما يرتبط بشعوره و أحاسيسه كلها تشكل بوصلته نحو الإتجاه الصحيح ! في هذا المركب يلازمه طاقم مكون من أحبائه و أصدقائه و أحيانا حتى أعدائه ، الكل يبحر معه ، و كأي إنسان يشعر كثيرا  بالوقت يمر أو يتوقف ، يحس بالملل، القنوط و الرتابة ! ينسى أو يهمل بعض أحبائه أو أصدقائه ، لكن في لحظة من اللحظات و كأن شيئا بداخله يدعوه لمراجعة ذاته ، يتوقف عند أشياء بسيطة في المنظور لكن عميقة في المعنى داخل هذا المركب تجعله يسعد لرؤيتها ، و كأنه يراها لاول مرة ، تعود به ذكرياته لأولى إنطلاقته في رحلته مع من يحب !! يجد في رحلته هذه داخله أنه قد سعد و حزن و عاش مغامرات ، و في كل توقف بمرفئ بقدر ما كانت نهاية لرحلة بقدر ماكانت بداية لأخرى، و بين هذا و ذاك أشخاص رافقوه أحبهم و أحبوه ، أشخاص لازال يرافقهم و آخرون فارقوه و هو في توقفه هذا عيناه مغمرتا بدموع تجمع بين الحزن و الفرح ، دموع الحياة و هو داخل مركبها ، يصرفهم و يلتفت بنظرة حب و شوق لمن بجانبه فيتمعن النظر إليه و كأنه يرى و يستغل ما يرى بشوق لرؤية أجمل الاشياء و يتمتع في مشاهدتها كأنه يراها لأول مرة كذلك يود لو يحضنها ، و يهتم بها إلى الأبد، يرعاها رعاية الورود و الأشياء الثمينة  هي تروثه الغير المادية أغلى شيء في الوجود في هذه الرحلة إنه الإنسان و المكان ..و ما هذه الرتابة ، النفور و الملل إلا حالة من حالات  السفر المتعددة و  الذي يأخذه في خط الزمن هذا  الطويل القصير  بما يحمل من مفاجآت نحو القدر و أجمل ما في الرحلة ، الرحلة نفسها و التمتع بالرفقة الجميلة مع   الأحباء و إستغلال اللحظة و كل اللحظات أيا كانت ، و الأهم في كل هذا مراعاة ظروف مرافقينا و الإنتباه لمعاملاتنا و سلوكنا و حسن تصرفاتنا، تعاملاتنا و معاشرتنا حتى ترمينوس رحلتنا داخل مركب الحياة ؛

فل نترك المركب يسير و لنسعد بالرحلة إذن و لا نسأل عن مساره من أين بدء و إلى أين المنتهى ، بقدر ما يجب علينا و نحن بداخله الحفاظ  عليه كما وجدناه فنحن مسئولون على حسن تدبيره ، و إصلاحه مادمنا على متنه و نسأل الله عز و جل أن يجعل رحلتنا جميلة جمال المركب و نشكره سبحانه بأن جعلنا من المسافرين على متنه ، و تلك أجمل نعمه. .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق