سياسة

الوحدة المغاربية هي الحل

يجب الانتصار لديمقراطية الجغرافيا بدل الخضوع لدكتاتورية التاريخ

عبد العزيز كوكاس

هل يكرر التاريخ نفسه، ولكن بغير المنحى الكوميدي كما ذهب إلى ذلك كارل ماركس؟ هل يتعقل صناع القرار في الدول الخمس لاستئناف روح الاتحاد المغاربي، بنفس أقوى ووضوح أكبر؟ هل تستطيع الدولتان الكبيرتان في المنطقة المغاربية إعادة حدث عام 1989 وقبله لقاء الأحزاب المغاربية بطنجة عام 1943، بروح وفاقية تعزز ثقة أجيل المنطقة في المستقبل؟ رغم بؤس الواقع الحالي وما آلت إليه القطيعين بين البلدين الجارين، لنا ثقة في المستقبل.

طويل هذا الصراع وممل هذا التناحر خاصة بين الجزائر والمغرب، لم تعد حلقاته الروتينية تغري المتتبع الإعلامي أو المحلل السياسي ولا حتى عامة الناس في شعوب المنطقة، بلغت التناقضات أوجها، واستُنزفت ميزانيات ضخمة وجهود كبرى، كان يفترض بالأحرى استثمارها في مصلحة وحدة مغاربية على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب”، لا ينقص المنطقة أي شيء، سوى الجرأة التاريخية التي اكتسبتها الدول الخمس لخوض مغامرة استثنائية كان لها صدى طيب في تاريخ المنطقة المغاربية في نهاية الثمانينات..

في ظل الوضع الحالي يبدو المغرب في ذات موقع عام 1989 أكثر تماسكا واستقرارا لكن بوضع اقتصادي هش أفرزته سنوات إعادة التقويم الهيكلي، تبدو الجزائر بعد الموجة الثانية للربيع العربي في ظل فراغ الرأس السياسي وأكل العسكر الحاكم بعضه البعض، وتونس تحاول النهوض برغم كل الترنح، لتستعيد عافيتها، وموريطانيا تفتقد للبوصلة السياسية وتعاني من التردد في خياراتها الإستراتيجية، لكنها بأحسن حال من ليبيا التي أصبحت مختبرا للتنازع الإقليمي والدولي، ولتدخل أطراف عديدة تلعب بقوة في رقعة شطرنج ليبيا، لكن كل الدول الخمس تعاني من أزمة اقتصادية خانقة زاد من حدتها وباء كورونا المستجد، لم يكن الوضع أسوأ حالا في المنطقة مما كان عليه الأمر عام 1989 حين اصطف خمسة قادة الدول المغاربية وأقروا منح شهادة الميلاد لتكتل تاريخي واقتصادي وسياسي اسمه اتحاد المغرب العربي، الذي اعتُبر إنجازا تاريخيا يحسب للقادة المغاربيين في القدرة على استشراف المستقبل برغم أن لكل قطب إرغاماته وحساباته السياسية.

لقد رأى الاتحاد المغاربي النور في مراكش عاصمة الموحدين في 17 فبراير 1989، بما يحمل ذلك من رمزيات، في ظل إرهاصات كانت تطرق الأبواب والنوافذ مبشرة بتحولات قادمة كان يجب الاستعداد لها.. الأهم في تكريس هذا التوجه أنه لم يكتف باستحضار الروابط التاريخية والدينية واللغوية والجغرافية التي انصهرت فيها المنطقة، وإنما شملت إضافته النوعية، إقرار الأطراف للمرة الأولى بأن مكونات الاتحاد تضم خمس دول لا أقل ولا أكثر، أي استبعاد قيام كيان آخر على الحدود، يفصل بين المغرب والجزائر أو المغرب وموريتانيا، وهو ما كان يعني الوعي بمردودية التكتل وثقل كلفة الصراعات والخلافات التي تتناسل كل مرة حول حدث صغير يتدحر مثل كرة ثلج ليصبح حاجزا نفسيا أمام أي تقارببين البلدان الخمسة، ورأسي الحربة في المنطقة: المغرب والجزائر.

كان هذا الإقرار الذي تحول إلى التزام مبدئي وسياسي وأخلاقي، كافيا لتبديد الغيوم العالقة في سماء البلدين الجارين، وانسحب تفاهمهما بطريقة مباشرة على مسار الأحداث في المنطقة برمتها، فقد قطع مع سياسة المحاور التي كانت بصدد النشوء، مع بيان جربة بين ليبيا وتونس عام 1974 ومعاهدة مستغانم بين ليبيا والجزائر، وتحديدا عندما نزعت الجزائر وموريتانيا وتونس نحو إبرام معاهدة الإخاء والوفاق والتعاون في 19 مارس 1983، في مقابل إبرام المغرب وليبيا معاهدة الاتحاد العربي الإفريقي عام 1984 في لقاء وجدة.

ما الذي حوّل الاتحاد المغاربي إلى إطار قوي ينظر له بتقدير كبير؟

تطلب اختيار السير على طريق التوافق خطوة شجاعة متبادلة، لا مكان فيها لأي حسابات ضيقة أو مصالح شوفينية، وكما أن الجزائر انخرطت على عهد الرئيس الشاذلي بن جديد في مسار خطة التسوية التي كان بإمكانها أن تجنب المنطقة مضاعفات التوتر، فإن الملك الراحل الحسن الثاني لم يمانع في رد التحية بأجمل منها، عندما وافق على استقبال أعضاء قياديين من بوليساريو، ليُسهم في خلق أجواء مشجعة للمضي قدما على طريق التسوية السلمية..

لقد كسر لقاء مراكش التي سيكون فيها للمكان دلالاته القوية والموحية، حواجز نفسية وسياسية، وفُهمت الرسالة في الجزائر بأنها تزيد عن السعي لإيجاد حل مشرف، نحو المساعدة في جمع الشمل عبر إزاحة العوارض التي كانت تحول دون بناء الثقة بين المغرب وجاره الشرقي. فعل الحسن الثاني ذلك لأنه يؤمن بما صرح به في كتاب “ذاكرة ملك”، إذ يقول: “ليس بإمكاني تغيير موقع كل من المغرب والجزائر ويجب أن يتذكر المغاربة والجزائريون دائما أنهم لن يقدروا على تغيير موقع بلديهم”.

بيد أن الالتزام بالبناء المغاربي في إطار الدول الخمس، وكذا محاولة إزاحة الحواجز النفسية والسياسية التي نمت بين الإخوة الأعداء، كان هو المحرك الأساسي لانطلاق الحوار، مادام أن الأبعاد الإستراتيجية لهذا الخيار المغاربي تكفل إذابة الخلافات وتصون وحدة وسيادة الدول، سيما وأن المعاهدة التأسيسية ذات المرجعية الواضحة تحظر استخدام أراضي أي دولة مغاربية كقواعد لحركات معارضة ضد أي من الدول المغاربية.

تحتاج المنطقة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى جرأة سياسية أكبر لتحرك القادة السياسيين في المنطقة المغاربية من أجل الإسراع نحو أوفاق جديدة وامتلاك إرادة مشتركة لوصل العناصر المشرقة في التاريخ بين الحاضر والماضي، حين اجتمعت الأحزاب المغاربية: حزب الاستقلال المغربي، والحزب الدستوري التونسي وجبهة التحرير الوطني الجزائري في طنجة بين 28 و30 أبريل 1958، ونظرا لانشغالات الدول المكونة بإشكالات التحرير ومحاولة بناء الاستقلال، فقد تأخر إنشاء اللجنة الاستشارية للمغرب العربي لتنشيط الروابط الاقتصادية بين الدول الثلاث إلى سنة 1964.. وحين امتلك القادة المغاربيون الخمس حدسا تاريخيا للاصطفاف جنبا إلى جنب في مراكش  يوم 17 فبراير 1989، معلنين في القمة التأسيسية ميلاد الاتحاد المغاربي، لم تكن أوضاع أي بلد على أحسن حال، صحيح أن لكل طرف إكراهاته وحساباته الخاصة، لكنهم امتلكوا وعي اللحظة السياسية لمنح الثقة لأجيال المنطقة في المستقبل بروح أخوية عالية، حيث أصبح الاتحاد المغاربي تكتلا يُنظر إليه بكثير من التقدير والفعالية، إلى درجة أن دولة مثل جمهورية مصر العربية طلبت الانضمام إليه، حين بدا لها أن إشعاعه في طريقه لأن يعيد ترسيم موازين القوى عربيا وإفريقيا وأوربيا، كونه أكبر تجمع بهذه المواصفات، التأم في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط قبالة العيون الأوربية..

لا يقف الأمر عند حدود قرار قادة الدول المغاربية، بل يلزم تحرك النخب السياسية والاقتصادية واتخاذ مبادرات مشتركة تعمل على تأجيل الملفات الثقيلة المختلف حولها، والشروع في رسم طريق الأحلام الكبرى في محاولة جعل الاتحاد المغاربي تكتلا إقليميا يصلح كأرضية لفض النزاعات وتحطيم الحواجز النفسية بين البلدان الخمسة، وفضاء لإنضاج الرؤى حول العلاقات المشتركة والقضايا المصيرية بُغية خلق جو من الثقة بين الأطراف المعنية في جو من التعايش والتفاهم والتعاون وحسن الجوار.

يقول سعد زغلول: “الإرادة متى تمكنت من النفوس، وأصبحت ميراثاً يتوارثه الأبناء عن الآباء، ذللت كل الصعاب، ومحت كل عقبة، وقهرت كل مانع مهما كان قوياً، ووصلت عاجلاً أو آجلاً إلى الغاية المطلوبة”، هو ذا ما نحتاج إليه في المنطقة المغاربية امتلاك الإرادة المصاحبة بحدس تاريخي يستشرف المستقبل وبجرأة سياسية كبرى، ذلك أن الائتلاف المغاربي هو السبيل الأوحد لإذابة النزاعات المتولدة عن صراعات الحدود الموروثة عن المستعمر وعن ثقل الجراح النرجسية التي تراكمت عبر عقود من الصراعات التي وصلت حدود المواجهة العسكرية المباشرة، فهذا التناحر قاس ومدمر، وبسبب تضييع مصالح البلدان الخمسة ومعها ثقة أجيال المنطقة في مستقبل آمن ومبشر بالأفضل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق