ثقافة وفن

التشكيلي اللبناني جوزيف العريض

من المكان إلى اللون ... رمزية التعبير وعمق الأداء

بشرى بن فاطمة

يختلف الأداء الفني والأسلوب التعبيري بين فنان وآخر ولكن يبقى التأثر الفردي ميزة مبنية على الانعكاس الواضح للانتماء المكاني من حيث الحركة الفاعلة للطبيعة والحضور الحر للنماذج البشرية والتأثير العام للعمارة والهندسة باختلافها المتماسك المتناغم مع ذاكرة الأمكنة وتأثير الوجود الثقافي للإنسان فيها بثبات واضح رغم الوقائع والأحداث والتراكمات.

فالأمكنة هي  التي تعيد ترتيب حركة العناصر التي تكوّن اللوحة وهذه التوجهات هي التي اختارها التشكيلي اللبناني جوزيف العريض، ليقدّمها في تجربته المتنوعة والطويلة تلك التي حرص من خلالها على أن يقدّم لبنان بتصوراته البصرية الكثيفة مختزلا فيها كل الوقائع والتفاصيل باشراقاتها وبعتماتها، حيث جمعت تجربته بين الانطباعية الجديدة والتكعيبية والتعبيرية والتجريد في مراحل اختلفت وتفاعلت معا لتكوّن حضورها فيها، فقد استطاع بفضوله التجريبي أن ينفذ من صور الأمكنة إلى تأثيراتها الخيالية ليعود إليها محمّلا بالضوء والنور ومشرقا بألوان ترشح محبة وانطلاقا أكثر حيوية، استطاع أن يقدّمه في حكاياته البصرية الناضجة التي عبر بها نحو التجريد.

إن المكان الذي يحاول العريض تطويعه في لوحاته يتجاوز التطلعات المادية في المدى العام نحو الكينونة الحسية التي تستشعر حضوره في ذلك المكان ماديا وحسيا لذلك يعيد استشعار الذاكرة مستعينا بخياله الادراكي وبالتالي يخترق المراحل التكوينية للوحة في مواسم الطبيعة وهي تروّض الوجود بين التناقضات، فيستعير من صخبها وهدوئها رموزه اللونية ومن انفعالها وبرودها تفاصيل حركته وإيقاعاته التنفيذية، بشكل يبدو متناغما لكنه يعكس ثورة ألوان تتداخل وتنفلت بحثا عن حضورها في الفضاء أبعد في نفوذها وسيطرتها على الوجدان، لتستحوذ على تفاصيل التكاثف الملون والهندسة المتبصرة في تكاملاتها.

إن الأماكن التي تستحوذ الوجدان في تفاصيل ترتيبها يعيدها الفنان إلى علاماتها الرمزية من خلال اللون وتراكيبه التي تحيل على طبيعة الأزرق والأخضر وتلك التلطيخات الداكنة والمساحات التي تحيل إلى بؤر من ضيق يحاول بها محاكاة الواقع بين خط وشكل وبين انحناء وتمازج داخلي يكسر الفراغ.

وبالتالي يتحكم في الشكل العام الذي تتكون عليه عناصر اللوحة من خلال تقنياته الدقيقة وهي تكثّف استيعابه المنتصر لمكانه داخل ذكرياته وتطلعاته البصرية تلك التي تجرّد الرمز وهو يحاول خلق الوصل بين التفاصيل العميقة للطبيعة وبين مواقفه البصرية من واقعه فتستدرج المخيلة من جديد لتتعايش مع روابط المكان وتتداخل مع الفنان نحو المتلقي الذي يتجاوز دوره من التلقي إلى المشاركة والتفاعل.

يبدو التنوع التفصيلي الفني في تجربة جوزيف العريض من حيث الأسلوب والتقنية وطبيعة استدراج اللون لتفكيك المفهوم، مثيرا في تراكماته الحسية والفهمية التي تقسم تجربته إلى قسمين الأول انغمس في ذاكرة الهدوء وبحث في التماسك المتجانس مع الطبيعة والثاني انهمك في فكرة الحروب وآثارها المتناقضة وبين القسمين لم يتخل  العريض عن رغبته في تجميع التكوينات الجمالية التي تضمن لأعماله الاستمرارية الفنية الباعثة على الأمل، فقد صقل من خلالها التجريب التشكيلي حتى يضمن لتفاعلاته تكوينات جديدة انحرفت عن التقديم المباشر للفكرة وانهمكت في ترتيب رموزها وفقا لخصوصية الأمكنة سواء في انبعاث اللون أو في امتزاج الضوء معه.

يعيد العريض تكوين لوحته وفق فضائها الجديد ليعطيها ملامح مختلفة كثيفة ومشحونة تتعاصف وتتماطر في مواسمها بين الهدوء والصخب وبين انسياقها مع الواقع واستنجادها بالخيال والذاكرة محاولا استنطاق انفعالات المتلقي وامتلاك سطح اللوحة بعمقه الحسي حتى يستعيد ذاته ويسترجع حضوره وانتمائه بكامل هويته التي يفجرها بفرح ويحكي تفاصيلها بدهشة.

إن الحضور الكثيف للتفاصيل الرمزية الدقيقة التي ينثرها العريض في تجربته التكعيبية أو التجريدية تبدو ساذجة وبسيطة من حيث تكويناتها والاحجام التي تبدو عليها وتمازج الأشكال مع المساحات اللونية التي تعيدها إليها ولكنها تعكس موقفا بصريا من كل الاحداث العابرة التي ميّزت لبنان وانعكست عليه وعلى ملامح أهله فهو يحاول أن يدمج تلك التراكمات فيما بينها ويأنسنها مرة ويجمّدها مرات وكأنه يقرّ بأن المكان له أيضا حس وقادر على الانفعال وقادر أيضا على توسيع ثقوب الذاكرة وكسر حواجزها الحسية والانتصار للإنسانية في معانيها الثابتة.

إن تجربة العريض بمراحلها التجريبية تعكس عمقا إنسانيا وتفاعلا حسيا له بساطة عميقة جماليا.

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق