
د. مكّي علي إدريس
النخلة، شجرة لها قدسيتها عند العديد من أُمم الأرض، منذ أزمنة سحيقة يصعب تحديدها، فقد وجدت النخلة عند السّومريين، مدوّنة في معثور عبارة عن ختم اسطواني، يعود إلى العهد السومري في الألف الثالث قبل الميلاد، حيث يُشاهد في النقش، رجل وعلى رأسه قلنسوة بقرنين، وأمامه امرأة حاسرة الرأس، وبينهما نخلة يتدلّى من جانبها عِذْقان من التمر، وهما يحاولان اقتطاف الثمر، كما تُشاهد أفعى قد انتصبت خلف المرأة، وكأنها تغريها على الأكل من ثمرة النخل[1]. وكانوا ينشئون بساتين النخل حول معابدهم كما في عهد الملك شوسن (1978-1970ق.م).
كان الآشوريون يقدّسون النّخلة، فقد نقشوا صورة النخلة على تاج موضوع بأعلى محراب، يعود إلى الملك الآشوري (اسرحدون) الذي حكم خلال الفترة من 680- 669 ق.م، وُذكر في التلمود أن النّخل كان منتشراً في إقليم ميسان، تعجّ بها شوارع مُدنها، وتطلّ من داخل بيوتها وهي تظلّل سطوح المنازل، وأنّ الفقراء كانوا يسكنون في أكواخ مشيدة من سعف النخيل، كما عدّدوا فوائد التّمر، بأنه يشبع المعدة ويليّن الأمعاء، (نفس المصدر).
هناك من يرى أن الإله المعروف صنمه بالعُزّى، والذي عبَدَه العرب، هو شكل من أشكال الآلهة البابليّة عشتار، وكانت نخلة في هيئة امرأة، تنشر على أكتافها سعفَ النخيل كالأجنحة المفتوحة على جانبيها، أما الإله (بَعْل) فكان يعني النّخل، وقد عبدته العرب، كإله لبساتين النّخل، حتى ظهور الإسلام.
تكثر أشجار النخيل في شمال السودان، على ضفاف النيل وبعض الواحات المنتشرة حوله، وضعتها ظروف المناخ الصحراوي، في أحضان نهر النيل، وهي من الأشجار التي تمتلك، قدرات فائقة في التأقلم مع الأجواء الصحراوية، وبصفتها محصولاً نقدياً ثابتاً، ومصدراً غذائياً موروثاً، فهي تعادل، في كثرة منافعها، الإبل عند الأعراب، وللنّخلة في التراث السوداني، دلالات عميقة ومتجذّرة، كشجرة مقدّسة بكل الأديان السماوية، سمّاها الرسول (ص) أُمُّنا النّخلة، وقد ورد ذكرها في القرآن في (19 سورة وخلال21 آية)،..كما أنّها كانت طعاماً للسيدة مريم عليها السلام، حين أجاءها المخاض إلى جذع النّخلة، لذا فإنّ حضور النّخلة في التراث النوبي، طاغِ ومرصود، وبصفة خاصة في الحوض النيلي، فالنخلة عطاؤها لا ينفد، حتى بعد أن ينفق عودها.
كان الأب الروحي لأكراد مدينة عبري، عبد المجيد صالح كردي، في منتصف القرن الماضي، يخاطب النخلة، ويهددها بالقطع ما لم تنتج بوفرة في العام التالي، وعوام الناس كانوا يؤكدون انصياع النخلة للأمر!، ويحكي الباحث محمود بدر محمد، المهموم بتوثيق التراث النوبي، أنّه كان من عادة النساء في قريته تَبَج، مخاطبة النخلة بعد حصادها، بعبارات الشكر والامتنان، كأن تقول المرأة (إن شاء الله يحول عليك الحول وتزيدنا من خيرك، وما يسقيك غير الماء البارد والرياح اللينة. آمين).
استفاد الإنسان النوبي من كل أجزاء النخلة، تبرّكاً بها وتعظيماً لفوائدها الجمّة. النخلة تنتج تمراّ(ثمراً)، وتُصنّف ضمن أهمّ المحاصيل النقدية، بجانب المحاصيل الزراعية الموسمية الأخرى، وغابات النّخيل تُعتبر الواقي الطبيعي للضفاف النائمة على الصّحارى النوبية القاسية، وتقف بصلابة أمام لفحات رياح الخماسين والزحف الصحراوي المتوثّب، كما تدخل ثمار النّخلة ضمن أهمّ المكوّنات في المائدة النوبية، ابتداءً من قبل مرحلة النضوج، فالتّمر الأخضر يؤكل ويسمّى (دفّي diffee)، ثمّ يصفرّ، ويصبح رُطباً، فيضمُر ويصير تمراً، وفي كل هذه المراحل يمثّل التّمر ركناً أساسياً المائدة النوبية، للإنسان والحيوان والطير.
صنع الإنسان النيلي من التمر أنواعاً من العجوة والعسل، وأنواعاً من المشروبات الروحية، (نبيت، دكّاي، شربوت)، وأدخلوا التّمر المهروس في صنع الفطائر (شيلد)، واحتفظ الوعي الشعبي باعتقاده، في أنّ التّمر شجرة مباركة، فاتّخذوه رمزاً للعطاء ونكران الذات، ومثلاً يُحتذى في السمو والثبات والصّبر، كما يقول الشاعر:
كُن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً يُرمى بحجرٍ فيلقي أطيب الثمر
أما الفنان محمد وردي، فقد اتخذ النخلة ايقونة يغازل بها معشوقته، يقول بأنّه خائف من فقد حبيبته، ويخشى أن تفرق بينهما صروف الدّهر، ويصبح حاله كحال نخلةٍ ظلّ يرعاها منذ كانت فسيلة، حتى كبرت وسمقت ورمت جريدها وثمارها، ثم يعود ليتساءل في وجل، هل من العدالة أن يأتي آخر ليجني ثمرة نخلته، (راجع أغنية ملاك للفنان وردي).
> تدخل كُلّ مكوّنات شجرة النخيل، في تأثيث البيت النوبي (عنقريب، مشلعيب، أبراش، مقاطف، قفاف، الخ)، ويدخل جريد النّخل وسعفه لتسقيف المنازل والأكواخ والمظلاّت، وفي استخدامات السّواقي والشّواديف، والنّجارة ومواد البناء
> ثمرة النخيل تمد الإنسان بالطاقة لاحتوائها على الكثير من البروتينات والألياف والمعادن الهامة مثل الكالسيوم والحديد والكبريت والصوديوم والسكريات
> تستعمل جذوع النخل كوقود وسماد، وتستخدم في صناعة الكراسي والورق.
>تستخدم أشجار النخيل في تزيين شوارع القرى والمدن
> ويستفاد منها في علاج الإمساك، البواسير وتهيجات القولون وفي علاج مرضى الضغط وحالات الدوار والغثيان، ويقال أنّ سوس التمر يقضي على الميكروبات التي تصيب الإنسان
(١) النخلة ملكة الغطاء الأخضر في شمال السودان، والمحصول النقدي الأول، منذ القدم، تتعرّض منذ سنوات لجحيم حرائق متّصلة، نقطع بأنها غير طبيعية.. ففي (أسبوع نفرة النخيل) بمدينة عبري 2012م، قالت الإحصاءات بأن عدد (65 ألف نخلة) احترقت في مدى أربع سنوات، وأياً كانت أسباب هذه الحرائق فإنّ الإهمال الواضح في حق النخلة كمحصول نقدي، يأتي في مقدمة تلك الأسباب، وإن جنح البعض إلى اتّهام جهات أُخرى، تحركها نوازع سياسية، لها علاقة بإقامة سدّي دال وكجبار في الولاية الشمالية. عبّر الإنسان النوبي عن قدسيّة النّخلة، الأم، الوطن، والرّمز، في سياق الحياة الاجتماعية، التي عبّر عنها الكاتب السوداني الكبير، الطيّب صالح، رحمه الله، في مؤلّفه ” نخلة على الجدول”.