
براغ
وردة ترقد على نهر الملداو
بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
مدينة براغ، عاصمة الشيك، تقوم منتصبة على نهر الملداو، شامخة شموخ قلعتها الإكليلية في أعلى الجبل، ومن هناك تمتد نظراتها الحالمة المليئة بأحداث التاريخ إلى جسر كارل الممتلئ عن بكرة أبيه بالحجيج والسياح الذين أتوا إلى ربوعها من كل فج عميق. عرفت هذه المدينة بالصمود ذلك منذ ربيعها الأبي الذي يمثل مرحلة هامة من تاريخ الجمهورية التشيكوسلوفاكية، حيت حاول خلالها الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي أن ينتهج نهجا إصلاحيا أقرب إلى الديموقراطية، عرف حينها بالاشتراكية ذات الوجه الإنساني. انطلقت تلك الحركة في بداية عام ١٩٦٨ بوصول الرجل الوطني ألكسندر دوبتشيك إلى السلطة، والذي عرف عنه ولاءه الحق لمصالح الشعب وحسن نيته الخالصة في الإصلاح في بناء الدولة المدنية، بيد أن تلك المرحلة لم يكتب لها أن تحيا طويلا فقد أخمدتها بنادق حلف وارسو الصارخة بعد بضع أشهر، بالضبط في الواحد والعشرين من شهر أغسطس من نفس العام ١٩٦٨، حيث اجتاحت قوات حلف وارسو العسكرية بقيادة الاتحاد السوفيتي البلاد لوقف التلاعب بمبادئ الاشتراكية كما كانوا يزعمون. لم يخش القائد دوبتشيك في تلك الفترة القصيرة في حق شعبه لومة لائم، ذلك رغم علمه التام ومعرفته الراسخة بالعواقب الوخيمة التي ستلم به والمكائد السافرة التي ستختلق له فيما بعد، فأخذ في دأب منقطع النظير لا يلوي على شيء إلا وتحسين وضع حقوق الإنسان بالجمهورية التشيكوسلوفاكية، مطالبا وعاملا على حرية الصحافة والتعبير، حرية التنقل والتي كانت في عهد السوفييت معضلة كبيرة سيما عندما يريد المرء التنقل إلى دول غرب أوروبا، ومن ثمة دعا بعزيمة صادقة إلى لامركزية الاقتصاد. ينبغي أن نجدد الذكر يا سادتي أنه ومن أهم الخطوات التي قام بها المناضل دوبتشيك هي وضع لبنات قويمة لدستور عادل وحقاني للبلاد يقوم على أعمدة المساواة بين الأمتين التشيكية والسلوفاكية في إطار جمهورية فيدرالية، فما أحوجنا نحن يا سادتي في سودان اليوم وقبل أن يشرق الغد لخطوات صادقة تؤمن دستور البلاد من أولئك الذين لا يريدون للسودان سلاما أو خير. للأسف كانت دولة السوفييت العميقة متوغلة في كل شرايين الحياة السياسية والاجتماعية فأجهضت جميع الاصلاحات باستثناء التعديل الدستوري المقام للفيدرالية. ورغم إجهاض هذا التحول السلمي إلى مدنية الدولة عبر البطش العسكري المسلح فمما لا يدع مجالا للشك أن ربيع براغ قد أسهم مساهمة فعالة في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم في ثورة تنادي بضرورة الإصلاح ولقد أثرت هذه الثورة في المخيال العالمي حيث اجتاحت موجتها دول حلف وارسو ودول أوروبا الغربية وحتى الدول العربية في العقد الماضي على حد سواء.
بين هذا الشموخ وهذه الحضارة التي بسطت يديها أمام أعيننا لتقول هلم إلي، وما بين هذا وبين خطواتي المتئدة أنا وأم طارق أسمع نبذ قبيح وراء ظهري لشخص عرض على رحلة حول المدينة فرفضت بأدب لكنه رماني برمح كلماته البذيئة وباللغة العربية وأنا على علم أنه لم يعمل أنني أفهم. وفي نفس اللحظة يتشاجر هو وعربي آخر ببذيء اللفظ ويتشاجرون في حصد أعداد البشر الذين يبتاعون منهم تذاكر رحلات الحافلات السياحية حول المدينة. يتسابقون في البذاءة وقلة الأدب في بلد أجنبي وبين شعوب العالم التي جاءت إلى تلك البقعة لتنهل من معين الحضارة وتتشبع بعض من شذرات ذكرى ربيع براغ وأزهاره الخالدة. عالمنا العربي غريب وعجيب! لم أدع لهذه الصفاقة أن تعكر مزاجي وأريج المكان وعبق اللحظة فجعلنا نحث خطانا حثا لنبتعد عن ذلكم المكان.
هذه الفاتنة براغ هي إحدى الوجهات المخملية للسياحة في أوروبا إذ أن تركيبة هذه العاصمة الساحرة بمعمارها الخارق للعادة وبتاريخها المثير الذي يضم عظماء الأدباء وكبار الفنانين مثال الأديب كافكا والموسيقار دفورجاك، يجعلها في صدارة العواصم الأوربية الأكثر ارتيادا في العالم. فهلموا إلى براغ في الذكرى أو الكرى لنهل من معين ربيعها الخالد.