النسيان نعمة إم ابتلاء؟
د. علي عفيفي
“النسيان نعمة”، جملة قلناها كثيراً، ربما عنيناها بالفعل أو قلناها فقط لنمني النفس بأن الذكريات الأليمة لن تدوم طويلاً. ولكن، هل يقتصر دور النسيان على تخطي الذكريات السيئة أم أن النسيان نعمة أكبر بكثير مما نعتقد؟
لسنين طويلة آمن العلماء أن الذاكرة هي أحد أهم وظائف العقل البشري، وأن النسيان ما هو إلا فشل الذاكرة في الاحتفاظ بالمعلومات أو استرجاعها. ولكن مؤخراً بدأ بعض العلماء في تحدي تلك العقيدة العلمية، فأشاروا إلى أن النسيان ليس بالضرورة عطل لا إرادي في الذاكرة بل يحدث بصورة متعمدة، وذهب بعض العلماء إلى ما هو أبعد من ذلك فقالوا أن العقل البشري ربما يكون قد خلق لينسى.
تعتبر الذاكرة من أكثر مواضيع علم الأعصاب غموضاً، ولذلك حاول العلماء كشف أسرارها باستخدام حيوانات التجارب الصغيرة التي يسهل تعديلها وراثياً لدراسة كل مجموعة من الأعصاب على حدة. في بحث نشر عام 2012، استخدم العلماء ذبابة الفاكهة لدراسة دور الناقل العصبي Dopamine في تخزين المعلومات. وجد العلماء أن الجزء المسئول عن الذاكرة في الذبابة (Mushroom Body) يحتوي على مستقبلات لل Dopamine وأن أحد هذه المستقبلات يتلقى إشارات من مركز الشم ويستخدمها لتخزين المعلومات الخاصة بالروائح، كأن تتعلم الذبابة الربط بين رائحة ما وتجربة سيئة (صدمة كهربائية)، فتبدأ الذبابة في تجنب تلك الرائحة بعد ذلك. المثير هو أن مستقبل آخر من مستقبلات ال Dopamine كان يقوم بعكس ذلك تماماً، كان يستقبل إشارات تؤدي إلى نسيان الروائح التي تم تعلمها، فتتوقف الذبابة عن تجنب تلك الرائحة. هذا الاكتشاف يثبت أن النسيان يحدث عن قصد وليس كعطل لا إرادي في تخزين المعلومات واسترجاعها، على الأقل في ذبابة الفاكهة.
في دراسة مشابهة على فئران التجارب، وجد العلماء أن الوصلات العصبية في مركز الذاكرة (hippocampus) تحتوي على مستقبلات خاصة هي التي تحدد قوة هذه الوصلات، وبالتالي قدرتها على حفظ المعلومات. وجد العلماء أيضاً أن هذه المستقبلات يتم إزالتها باستمرار مما يؤدي إلى نسيان المعلومات التي تم تعلمها، وعندما ثبط العلماء عملية إزالة تلك المستقبلات لم تنس الفئران المعلومات التي تعلمتها2،3. الأغرب من ذلك هو الدراسة التي نشرت عام 2014 بمجلة Science والتي أشارت إلى أن زيادة معدل تكوين الأعصاب الجديدة في ال hippocampus في الفئران لم يؤد إلى زيادة القدرة على حفظ المعلومات بل على العكس تماماً، إلى نسيانها4. أما في الإنسان، فقد وجد أن بعض الأعصاب في ال hippocampus تستخدم الناقل العصبي GABA لتثبيط عملية التذكر5، مما يثبت أن النسيان عملية نشطة تحدث عن قصد وليس بصورة لا إرادية كما كان يعتقد من قبل.
لماذا إذن يقوم المخ بنسيان المعلومات؟ يعتقد العلماء أن عملية النسيان ضرورية جداً لحفظ واسترجاع المعلومات الهامة. تخيل معي لو كان عقلك يحتفظ بكل المعلومات والخبرات التي يتعرض لها يومياً، سيؤدي ذلك بالتأكيد إلى ضياع المعلومات الهامة في زحام التفاصيل الثانوية. هناك الكثيرون ممن يتمتعون بذاكرة فوتوغرافية، يستطيع هؤلاء تذكر التفاصيل الدقيقة بصورة مذهلة، ولكن هل يعتبر ذلك مفيداً؟ ليس بالضرورة، فالإغراق في التفاصيل قد يمنع الشخص من التركيز على ما هو أهم. ولذلك، لا داعي للقلق عزيزي القارئ إذا كنت تنسى بعض التفاصيل البسيطة، فعقلك يحتاج إلى ذلك ليرى الصورة كاملة، الناجحون يفعلون ذلك.
مصادر
• Berry, Jacob A., Cervantes-Sandoval, I., Nicholas, Eric P. & Davis, Ronald L. Dopamine Is Required for Learning and Forgetting in Drosophila. Neuron 74, 530-542 (2012). doi.org/10.1016/j.neuron.2012.04.007
• Migues, P., Hardt, O., Wu, D. et al. PKMζ maintains memories by regulating GluR2-dependent AMPA receptor trafficking. Nature Neuroscience 13, 630–634 (2010). doi.org/10.1038/nn.2531
• Migues, P. V. et al. Blocking Synaptic Removal of GluA2-Containing AMPA Receptors Prevents the Natural Forgetting of Long-Term Memories. Journal of Neuroscience. 36, 3481–3494 (2016). doi.org/10.1523/JNEUROSCI.3333-15.2016
• Akers, K. G. et al. Hippocampal Neurogenesis Regulates Forgetting During Adulthood and Infancy. Science 344, 598-602 (2014). doi:10.1126/science.1248903
• Schmitz, T.W., Correia, M.M., Ferreira, C.S. et al. Hippocampal GABA enables inhibitory control over unwanted thoughts. Nature Communication 8, 1311 (2017). doi.org/10.1038/s41467-017-00956-z
