مجتمع

ذكريات وزير

ملاح لوبيا

د. محمد بدوي مصطفى

أبناء الشيخ المكاشفي عبد الله وعمر هما أشقاء من أمّ واحدة. أمهم بت ود أبو آمنة. ذات يوم هي قاعدة تتدخن والشيخ المكاشفي جاء ليدخل وكانت السماء ممطرة بشدّة والرعد يدوي وكأن صواعقا على مقربة من مكانه الذي يقف عليه. طرق الباب وأصر ثمّ ألح أن تفتح الباب. رفضت أن تفتح له معاندة بقوة رأس وعنجهيّة. أخيرا حينا قررت أن تفتح الباب غلبها أن تقف وإلى أن توفاها الله بقيت كسيحة. كان من مقدراته – حسب ما رأيت بعينيّ – أن يحفر الأرض ويخرج منها ٢٠ قرش لكن لم أتجرأ يوما أن أسأله أي مبلغ.

كنت معه ذات يوم في البساته إذ تزوج من امرأة صغيرة السنّ وأنجب منها بنتا. سألني قائلا:

– قل للمرة دي تجيب لينا كسرة بملاح لوبيا!

وأنا تناسيت الموضوع. فقلت للخليفة الظريف:

– “كلو يوم يجيبوا لينا كسرة بملاح لوبيا؟ الحكاية شنو؟ لأنو في الشكينيبة كانوا بيجيبوا لينا أكل فاخر.” فإذا بالخليفة يخبر الشيخ المكاشفي قائلا له:

– “بدوي قال ليك يا الشيخ الحكاية شنو؟ كل يوم يجيبوا لينا كسرة بملاح لوبيا؟”

ابتسم الشيخ المكاشفي وبحكمته حينما سمع الرواية قال للأولاد:

– “أمشوا كلموا أمّكم دي وقولوا ليها والله أكلك ده لو ما خِجِلنا كنا رجعناهو ليك.” فمنذ ذاك اليوم صارت تطبخ أكل من أحسن الأصناف.

زوج الجنيّة

في إحدى زياراتي عند عطلات الأسبوع كنت أزور صديقي الشيخ المكاشفي. ذات يوم كنت جالسا كعادتي أمامه وبينما نحن في جلستنا تلك نتحدث عن أمور الدين ونتشاور في مسائل الفقه وتشعباته واستمع لرأي الشيخ المكاشفي فيها، دخل علينا رجل متزوج بجنيّة. نعم، كما أخبرني عندما تجابدتُ معه أطراف الحديث في تلك الزيارة. أخبرني أن هذه الجنينة – كما أحسست من كلماته التي آثرني بها- تحبه حبّا جمّا وتمنعه من أن يتزوج من بنات السودان كما وأنها امتنعت – بعد محاولات جمّة قام بها – أن تختفي من حياته، التي صارت ضيما وألما ومعاناة. كما أنها رافضة بجديّة أن تخلع عنه فلم تتركه يتزوج من سودانيّات عندما أراد هو. ففي محنته هذه دخل علينا وحاله يرثى لها وقد اغتمّ وجهه واكفهرّ نظره وصار يحدق في الأفق المكاشفيّ أمامه ناظريه راجيا الخلاص ومتوسلا المساعدة في هذه المحنة. دخل ووقف دون أن يجلس احتراما وتبجيلا. نظر إليه شيخ المكاشفي وأومأ إليه إن يجلس على مقربة منّا. وفي عجلته تلك خاطب الشيخ قائلا:

– يا أبوي الشيخ أعزم ليّ!

بادرني الشيخ سائلا ومبتسما:

– يا بدوي أسأل الزول ده مالو؟!

فسألته:

– ما لك يا أخونا مصيبتك شنو؟

أجابني:

– عندي الجِنيَّة دي ماسكة فيني مسكة لا يعلم بيها إلا الله وحامياني أتزوج وما دايرة تفكّني.

– كيف الكلام ده يا رجل؟

– والله يا أستاذ قاعد معاها طول هذه السنين وعاشرتها وألفتها وما خلت ليّ حاجة: ورّتني أسواقهم وحياتهم، أهل القماش براهم وأهل الخضار براهم والتجّار كلهم شفتهم حتى ناظميّ السِبَح.

أبتسم المكاشفي ريثما أكمل زوج الجِنيَّة من الحكاية.

قضى له الشيخ أمره وذهب من بعدها متفائلا.

حان موعد الوداع فودعت الشيخ المكاشفي وككل مرّة كنت حزينا مكتئبا أن أفترق عنه، لكن لم يأخذ التشاؤم من قلبي موقعا لأنني على يقين أنني سوف أعود إليه في العطلة التالية. حان موعد الوداع وطلب الشيخ من حواره قسم السيد قائلا:

– وصِّل بدوي بالحمار لغاية المناقل!

فحينما نزلت من ظهر الحمار وضع قسم السيد في يدي صرّة بها ٥٠٠٠ ريال وأومأ إلى قائلا بصوت رخيم يملأه الهدوء والسكينة:

– الشيخ قال ليك أصرف منها مبلغ كبير ولمن تمشي الأبيض أدّيها لأخيك الشيخ!

حملتها كاملة لأخي الشيخ دون أن آخذ منها شيئا فاستلمها بوجه تبدّت عليه علامات السرور وأخذها كاملة بصرتها وأعطاني فقط مبلغ ٥٠ ريالا قائلا لي:

– ما تكلّم أبوي!

“كان الشيخ المكاشفي رجلا عظيما. ومما أذكر في زياراتي تلك إنه كان له أوضة قريبة من الدردر. كنت آكل معه وجبة العشاء وأستلقي بعدها للراحة، وعندما أصحو في منتصف الليل أسمع السبحة الألفيّة تجلجل بلا انقطاع طيلة الليل “تك تك تك تك” وكأنها عقارب ساعة دقيقة السير والمسار لا ينقطع دأبها وحركتها. لم يكن ينام الليل، متهجدا فيه إلى أن يفصح الصبح ويسفر عن شعاع يملأ مكان صلاته بالضوء الدافق. كان له قرابة ال٢٠٠ خلوة مليئة بالطلاب”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق