د. علي عفيفي
يعتبر البعوض من أخطر الكائنات وأكثرها نقلاً للأمراض بين البشر، فالبعوض يتغذى على دم الإنسان وينقل إليه العديد من الأمراض مثل الملاريا وفيروس زيكا والحمى الصفراء، مما يتسبب في قتل الملايين من الناس كل عام1. تقدر الأنواع المختلفة من البعوض بحوالي 3500 نوع، معظمها لا ينقل أي أمراض للإنسان ويتغذى على دم كل الحيوانات التي تجدها بدون أي تفضيل. في المقابل، نجد أن معظم الحالات المرضية التي تصيب الإنسان تنتج عن بضعة أنواع فقط من البعوض والتي تخصصت في التغذية على الإنسان دون غيره من الحيوانات2. يعتقد العلماء أن تلك الأنواع كانت تعيش في الغابات وتتغذى على الحيوانات المختلفة، ثم تطورت وأصبحت تعيش بالقرب من التجمعات البشرية وتخصصت في التغذية على الإنسان منذ حوالي 10,000 عام3. فما الذي دفع تلك الأنواع من البعوض إلى المعيشة بالقرب من الإنسان والتخصص في التغذية عليه رغم أنه يمثل خطورة أكبر على البعوض من الحيوانات الأخرى؟
للإجابة على هذا السؤال، قام العلماء بجمع ودراسة العديد من بعوض Aedes aegypti من مناطق مختلفة من جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، فوجدوا أن هناك تفاوت كبير في التفضيل الغذائي لهذا البعوض وأن هذا التفضيل يتباين باختلاف المنطقة التي تم جمع البعوض منها، فالبعوض الذي تم جمعه من المدن والمناطق المحيطة بها، والتي تتميز بكثافة سكانية عالية، كان يفضل التغذية على دم الإنسان، بينما البعوض الذي تم جمعه من مناطق قليلة الكثافة السكانية كان أقل تفضيلاً للتغذية على الإنسان4. المثير هو أن الكثافة السكانية لم تكن هي العامل الأقوى تأثيراً على سلوك البعوض الغذائي، بل المناخ. وجد العلماء أن مستوى هطول الأمطار وتباين ذلك المستوى من موسم لآخر كان له التأثير الأكبر على تفضيل البعوض الغذائي، ففي حين كان البعوض يفضل التغذية على دم الإنسان في المناطق الأكثر جفافاً والتي تتميز بهطول الأمطار في فترات محدودة من العام، كان البعوض أقل تفضيلاً للتغذية على دم الإنسان في المناطق الأكثر استقبالاً للأمطار والأكثر ثباتاً في مستوى هطول تلك الأمطار4. هذه النتائج تفسر التفضيل الشديد للتغذية على دم الإنسان في البعوض الموجود بمنطقة الساحل من غرب أفريقيا، حيث تتميز تلك المنطقة بالجفاف الشديد لما يقرب من 9 أشهر كل عام، بينما يهطل المطر بصورة مكثفة ولمدة قصيرة فقط. ولكن، ما العلاقة بين معدل سقوط الأمطار وسلوك البعوض الغذائي؟
عندما تهطل الأمطار، تتجمع المياه في شقوق الأشجار والتجاويف الأرضية وتكون بركاً صغيرة، هذه البرك تمثل بيئة مثالية للبعوض والذي يقوم بوضع البيض فوق سطح الماء5. في العادة، يفقس ذلك البيض بعد فترة قصيرة لتخرج يرقات تعيش في الماء لمدة أسبوع تقريباً، ثم يعيد البعوض دورة حياته. ولكن، عندما يضع البعوض البيض في نهاية موسم المطر، لابد أن يظل ذلك البيض في حالة سكون طيلة موسم الجفاف، ثم يفقس فقط عند هطول الأمطار مرة أخرى5. هذه الفترة الطويلة من الجفاف تمثل تحدياً كبيراً للبعوض والذي قد لا ينجو حتى موسم المطر التالي. ولذلك، يعتقد العلماء الآن أن البعوض في المناطق الجافة قد لجأ، منذ آلاف السنين، إلى مناطق التجمعات البشرية ليستغل المياه التي يقوم الناس بتخزينها لوضع البيض. هذا السلوك أدى إلى تحول ذلك البعوض “البري”، الذي يتغذى على الحيوانات المختلفة، إلى بعوض “مستأنس” يعيش داخل المدن والقرى أو بالقرب منها، ويتغذى على دم الإنسان فقط. هذه النتائج لا تفسر فقط أسباب تحول أنواع كثيرة من البعوض إلى التغذية على دم الإنسان في الماضي البعيد، ولكنها أيضاً تنذر بعواقب وخيمة في المستقبل، فاستمرار التغير المناخي بالمعدلات الحالية، وازدياد الكثافة السكانية قد يؤديان إلى تحول المزيد من البعوض للتغذية على الإنسان ونقل الأمراض إليه بصورة حصرية.
مصادر
• WHO: Mosquito-borne diseases.
https://www.who.int/neglected_diseases/vector_ecology/mosquito-borne-diseases/en/
• Takken W, Verhulst NO. Host preferences of blood-feeding mosquitoes. Annual Review of Entomology 58, 433-453 (2013).
• Craford JE, Palmer WJ, Day JP, et al. Population genomics reveals that an anthropophilic population of Aedes aegypti mosquitoes in West Africa recently gave rise to American and Asian populations of this major disease vector. BMC Biology 15, 16 (2017). doi.org/10.1186/s12915-017-0351-0
• Rose NH, Sylla M, Badolo A, et al. Climate and urbanization drive mosquito preference for humans. Current Biology 30 (18), 3570-3579 (2020).
• Silver JB. Mosquito ecology: field sampling methods. New York: Springer (2008).
—————–
