مجتمع

دراسات عامة

مصاعب الغرب في التأهل للحوار مع العالم الإسلامي (3)

د. محمود الذوادي

وفي ضوء هذه المعطيات، فإنه لا يمكن الحديث عن المساواة في رغبة الطرفين الغربي والعربي الإسلامي في الحوار. فالهيمنة الغربية الحالية وتاريخ الغرب الاستعماري للشعوب العربية الإسلامية وجهل سواد المجتمعات الغربية لإحدى لغات العالم العربي الإسلامي الكبرى على الأقل يضعف كثيرا من استعداد وقدرة تلك المجتمعات على الحوار التلقائي والمتحمس والواعد مع المجتمعات العربية الإسلامية.

ومن ثم فالمجتمعات الغربية الحديثة هي أقل استعدادا ومقدرة لغويا وثقافيا على الدخول في حوار ثقافي واسع ومثمر مع المجتمعات العربية والإسلامية. وفي ظل ظروف الجهل المتفشي في العالم الغربي بلغات وثقافات العالم العربي والإسلامي، فإن الطرف الغربي هو الأكثر استعدادا وترشحا للدخول في صدام مع العالم العربي الإسلامي9. ومما يزيد الطين بلّة في صدام الثقافات هو أن هيمنة الغرب العالمية ومصالحه الكبيرة والمتنوعة في العالم العربي والإسلامي تشجع الغرب أكثر على الهجوم على العالم العربي والإسلامي بدلا من الحوار معه. إن السياسة الخارجية الأمريكية الصدامية لإدارة بوش الصغير مع العالم العربي والإسلامي اليوم خير مثال ميداني تتجلى فيه مشروعية تأهل أمريكا القوة الأعظم للصدام مع العالم العربي والإسلامي. وتأتي المنظومة الثقافية لإدارة بوش في المقام الأول باعتبارها عاملا حاسما في صدام هذه الإدارة ليس مع العالم العربي الإسلامي فحسب بل مع المجموعة الدولية قاطبة10.

كما أن الحديث عن علاقة العرب المسلمين بالغرب المسيحي يحتاج إلى الإشارة إلى الخلفية التاريخية التي ربطت بينهما. فمن جهة، لقد “غزى” العرب المسلمون ما يسمى اليوم إسبانيا والبرتغال حيث أقاموا حكمهم وهيمنتهم لقرون عديدة. وحاولوا التوسع أكثر في أوروبا. ولا شك أن المخيال الغربي/منظومته الثقافية أصبح منذ ذلك التاريخ متوجسا وخائفا وعدائيا للعرب المسلمين. إذ هم القوة الوحيدة في العالم التي هددتهم في عقر دارهم. إن مفهومنا للرموز الثقافية يرشح المخيال الغربي العدائي للعرب والمسلمين إلى استمراريته لقرون عديدة وربما إلى أجل غير مسمى.

ومن جهة ثانية، فقد هزم العرب المسلمون في الأندلس وطردوا منها شرّ طرد فسجلوا في مؤلفاتهم هيامهم بالأندلس ولوعتهم عليها وغضبهم على ما تعرضوا له على أيدي المنتصرين الأسبان المسيحيين؛ فولّد عندهم مخيال حاقد على الأسبان وعلى الغرب بصفة عامة نتيجة للحروب الصليبية والاستعمار الغربي لهم في العصور اللاحقة والحديثة.

ونخلص إلى القول إن المنظومة الثقافية السلبية إزاء “الآخر” عند مخيالي الطرفين الغرب والعرب المسلمين مرشحة بكل قوة لا لتستمر لقرون عديدة فقط بل إلى أجل غير مسمى. إذ الرموز الثقافية ذات مدى حياة طويل قد يصل إلى الأبدية، كما أكدنا في منظورنا في هذا البحث.

لا تسمح المعطيات المبيّنة أعلاه بالتفاؤل للحديث عن توفر الشروط اللازمة لحوار حقيقي متكافئ فعلا بين الغرب والعالم العربي الإسلامي إذ الطرف الغربي هو الأقل تأهلا اليوم للدخول في مثل ذلك الحوار كما شرحنا ذلك.

إذا كان العرب والمسلمون يتفوقون على الغربيين في رغبتهم للحوار معهم بسبب معرفتهم للغات الغربية كما بينا، فإن عامل الدين لا يمثل قطبا جذابا يشجع ويدفع الفريقين للحوار والتعارف. فموقف الأغلبية المسلمة في العالم العربي وبقية المسلمين غير العرب من الدين المسيحي في الغرب والشرق موقف فيه الكثير من النقد والتحفظ على العديد من الاعتقادات المسيحية التي تتعارض مع نصوص القرآن نفسه مثل مسألة صلب المسيح أو سبغ صفة الألوهية عليه. ولا يقتصر موقف المسلمين السلبي على الديانة المسيحية وحدها بل يتجاوزها ليشمل كل الديانات مثل اليهودية والبوذية والكونفوشية وغيرها. ويعود ذلك إلى اقتناع المسلمين الواسع بأن دينهم هو خاتم الرسالات السماوية، وبالتالي فهو أفضلها. ويفسر هذا في نظرهم ريادة ازدياد انتشار الإسلام شرقا وغربا رغم أحداث 11 سبتمبر 2001. وباختصار، يبدو أن العقيدة الإسلامية تعطي معتنقيها مناعة ضخمة تحفظهم من ترك إسلامهم وإتباع ديانات أخرى. وهكذا فالمسيحية، ديانة الأغلبية الساحقة في الغرب، ليست بالعنصر الجذاب أو المتعاطف معه عند أغلبية المسلمين. وبالتالي فهي ليست بالعامل المشجّع والمساعد للمسلم لكي ينشد الحوار ويسعى إلى التعارف مع الإنسان الغربي المسيحي.

أما بالنسبة لموقف أغلبية المسيحيين الغربيين من الإسلام فهو موقف سلبي على العموم قبل أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ولابد أن تلك الأحداث قد زادت من عداوة المسيحيين في الغرب ضد الإسلام. لكن اقترن هذا الموقف أيضا في الغرب بازدياد رغبة قطاع واسع من الجماهير الغربية للاطلاع على الدين الإسلامي عبر قراءة الكتب والمجلات والصحف والإنترنت وعبر وسائل الإعلام السمعية والبصرية. ولا ندري إذا كانت هذه العوامل قد حسّنت صورة الإسلام في الغرب أو زادتها سوءا.

ولعل غزو قوات التحالف للعراق -البلد المسلم- بدون مساندة عالمية وبدون موافقة أغلبية شعوب قوات التحالف بقيادة الولايات الأمريكية قد عمل لصالح صورة الإسلام في الغرب. وتأتي جرائم الجنود الأمريكيين والبريطانيين في سجون العراق المحتل لتفضح بالصورة أمام العالم بأسره المستوى الهابط لقوى الاحتلال التي طالما ردّدت باطلا أنها جاءت لتحرير العراق ونشر حقوق الإنسان والديمقراطية فيه.

فاشمئزاز العالم وتبرمه مما وقع في سجن أبو غريب قرب بغداد على أيدي الجنود الأمريكيين يساعدان بطريقة غبر مباشرة على التعاطف مع الإسلام. إذ مقاومة الشعب العراقي المسلم في أغلبيته ضد الاحتلال الأمريكي وغيره من قوات التحالف تجد تعاطفا واسعا بين شعوب العالم التي عارضت منذ البداية العدوان الأمريكي البريطاني على العراق. فقامت من أجل ذلك بمظاهرات صاخبة ضد احتلال العراق.

يتجلى مما سبق أن عاملي اللغة والدين، وهما أهم عاملين في منظومة الرموز الثقافية، لا يساعدان كثيرا على تشجيع وتسهيل الحوار والتعارف بين الغربيين المسيحيين والمسلمين عربا وعجما. ويبقى أن الطرف العربي والمسلم هو الأكثر استعدادا للانخراط في عمليتي الحوار والتعارف مع الآخر (الغرب) بسبب معرفته المحترمة للغاته وتأثره الكبير بثقافته.

أما إذا نظرنا إلى عنصر المعرفة/العلم في منظومة الرموز الثقافية، فإننا نجده ربما الأكثر قدرة على جمع الشمل والتقارب بين الثقافتين الإسلامية والغربية. يمثل، من ناحية، عنصر المعرفة، العلم قيمة ثقافية اجتماعية مركزية في صلب المجتمع الغربي الحديث. بدأت هذه القيمة في الظهور منذ عصر النهضة في أوروبا. ثم اكتمل تجذرها الواسع في المجتمعات الأروبية وفي أمريكا الشمالية واليابان في القرن العشرين. إن قيادة تلك المجتمعات لمسيرة العلم اليوم شاهد على ذلك. ويعتبر، من ناحية أخرى، طلب المعرفة/العلم قيمة ثقافية مقدسة في الإسلام. فأمة الإسلام هي أمة الكتاب/القرآن الكريم الذي تبدأ أول آية من أول سورة فيه بخطاب الأمر للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مخاطبا له: “اقرأ باسم ربك“. فهذه الآية وغيرها كثير جدا في سور القرآن القصيرة والمتوسطة والطويلة تؤسس لثقافة حب المعرفة والعلم. إنها ثقافة تدعو المسلم للسعي إلى تحصيل المعرفة/العلم كامل حياته “أطلبوا العلم من المهد إلى اللّحد” و”طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” و”أطلبوا العلم ولو في الصين”. إنها ثقافة تمنح التميّز للعلماء “قل هل لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. إنها ثقافة تلحّ على العلماء أن لا يعزلهم علمهم/معرفتهم على التوق إلى التعرف على الحقيقة الكبرى المتعالية “إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء”.

فقطب العلم/المعرفة قيمة مركزية في الثقافتين الإسلامية والغربية. ومن ثم تعتبر مركزية قيمة المعرفة والعلم عاملا هاما للمساعدة على الحوار والتعارف بين هاتين الثقافتين. لكن لا ينبغي أن ننسى أنه توجد اختلافات غير هينة بين رؤيتي الثقافتين بالنسبة لأخلاقيات ethics وأهداف وفلسفات العلوم والمعارف.

وفي ضوء ما سبق يمكن القول بأن شعوب الثقافة الإسلامية اليوم تجد نفسها مدفوعة أكثر من شعوب الثقافة المسيحية الغربية للدخول في عمليتي الحوار والتعارف، وذلك بسبب معرفة الشعوب الإسلامية الواسعة للغات الغرب المتقدم، من جهة، وتحمسها ثقافيا، من جهة ثانية، للنهل من المعرفة/العلم الذي يتفوق فيه الغرب المسيحي عليها.

أما بالنسبة للغرب المسيحي المتقدم، فإن عناصر اللغة والمعرفة العلم والدين، أهم عناصر منظومة الرموز الثقافية التي ناقشناها، لا تعمل كلها لصالح الحوار والتعارف مع العالم الإسلامي. فالمجتمعات المسلمة متأخرة في دنيا المعارف والعلوم الحديثة ولا تعرف الأغلبية الساحقة من مواطني المجتمعات الغربية أي لغة من لغات العالم الإسلامي الكبرى. وكما أشرنا من قبل، فإن موقف سواد الشعوب الغربية من الإسلام يتسّم بعدم التعاطف وبالنفور والعداء.

كل ذلك يدعو إلى القول بأن الغرب والعالم الإسلامي طرفي الحوار والتعارف ليسا متساويين في دوافع الرغبة للدخول في الحوار والتعارف والمحافظة عليهما. فتحليلنا لدور اللغة والدين والمعرفة/العلم في تقارب الشعوب يؤكد أن الطرف العربي الإسلامي متفوق على نظيره الغربي المسيحي. وإن تغيير معادلة هذا الوضع لصالح المساواة بين الجانبين أو القرب منها على مستوى تلك الرموز الثقافية الثلاثة أمر غير وارد في المستقبل المنظور. فمن ناحية، تتصف الرموز الثقافية وآثارها على الناس بأمد حية طويل قد يصل إلى الخلود. ومن ناحية أخرى، فإن دراسات علم الاجتماع المعاصر أكدّت على أن تغيير الجوانب الثقافية في المجتمع هو عملية بطيئة مقارنة بالتغيير في الجوانب المادية في المجتمعات البشرية11.

الهوامش

1. جلال الدين بن أحمد بن محمد المحلي وجلال الدين عبد الرحمان بن أبي السيوطي، ط.7، دار ابن كثير، بيروت، 1993، ص 457.

2. طبارة عفيف عبد الفتاح، تفسير جزء يس ج 23، دار الملايين، بيروت، ص 145 بدون تاريخ.

3. تفسير الشيخ متولي الشعراوي، المجلد 12، ص 76-94.

4. Dortier J.F., L’homme cet étrange animal, Auxerre, Sciences Humaines Editions, 2004, pp.19-23.

5. وردت مفردات Supraorganic و Suprabiological وSuperorganic عند علماء الأنثروبولوجيا الغربيين لوصف الجانب الثقافي للإنسان دون أن يشير هؤلاء بوضوح في تحاليلهم لمفهوم الثقافة بأن لها لمسات متعالية transcendental كما بيّنا في هذا البحث. أنظر كتاب:

White, L.and al, The Concept of Culture, Edina, Alpha Editions, 1973, pp.32-39.

6. Ebaugh, H.R., Return of the Sacred: Reintegrating Religion in the Social Sciences, Jounal for the Scientific Study of Religion, Vol.41, n°.3, sept.2002, pp. 3 85-95.

L’homme….7 Dortier، م، س، ص20.

8. الذوادي، محمود، التخلف الآخر: عولمة أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث، الأطلسية للنشر، تونس، ص 34-35.

9. Huntington, S., The Clash of Civilizations: Remaking The World Order, New York, Touchstone, 1977.

10. الذوادي، محمود، في ثقافة إدارة بوش وخطرها على مسيرة العالم، القدس العربي، 22122003، ص8.

11. أنظر مفهوم الهوة الثقافية Culture Lag في كتاب:

Ogburn, W., Social Change with Respect to Culture and Original Nature, New York, Free Press, 1922, pp. 200-201.

Science

الاستشراف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق