آراء

غوايات

الهروب من "الحشو"

عماد البليك

يقترح البعض تأويلات حول اللغة يظنون أنها تعمل على تحريرها ونقل الخيال العربي إلى أفق جمالي أرحب، كما تفعل بعض البرامج التلفزيونية التي تكون لو نظرنا إليها بدقة وبالاً على اللغة العربية بدلا من كونها تشتغل لصالحها.

مناسبة هذا الحديث، أني تابعت برنامجاً يقول صاحبه إنه يحارب “الحشو” في اللغة، يعني الكلمات الزائدة عن الحاجة. قد تكون الفكرة جيدة، غير أن خطورة مثل هذا الطرح أنه يقع في العديد من الأخطاء.

فالرجل يقترح تأويلات حول استخدامات اللغة تظل هي وجهات نظر، مثلا يقول يكفي ان تقول قصيدة، ولا تقول “القصيدة الشعرية”، في حين هناك الآن “القصيدة النثرية”، فمفهوم القصيدة متسع ولا تحده حدود، كما مفهوم الشعر من وجهة ثانية.

كذلك قوله لا تقل “نحن نريد”، وقل “نريد”، وهكذا.

ما أقصده بأن اللغة في تصورها العميق هي كائن احتيالي ومعقد ولا يمكن تبسيطه باختصاره في مفاهيم الحشو والتكرار والاطناب وغيرها من أدوات البلاغة الكلاسيكية، الأمر الذي يؤدي إلى حشر اللغة في سياق مغلق بحيث؛ في نهاية الأمر؛ تتكلس وتموت وتفقد حيويتها، وهو ما يحصل للأسف اليوم مع اللغة العربية.

يبدو بجلاء أن هناك سياقاً ثقافياً تقليدياً، يعمل على جعل قوالب لكل شيء، وهذا باختصار يحد عمل الإبداع ويوقفه، فمفهوم الأدب والإبداع واللغة في جوهره هو البيان والاتيان بالجديد، وهؤلاء؛ أصحاب مدرسة “الحشو” لهم نظرة للغة قائمة على الأسلوب الذي تعلمناه في المدارس وهو في خلاصته يغلق في نهاية المسار عملية التخييل الجمالي والاتساع في الرؤية الإبداعية واسعة الأفق.

على سبيل المثال في قضية القصيدة والشعر، هناك فرق بين مفهوم القصيدة والشعر، فالقصيدة جزء من الشعر، لكن ليست كل الشعر، فمفهوم الشعر الذي تعبر عنه الشعرية متسع وكبير ومفتوح، وبالرجوع إلى أدونيس يمكن فهم ذلك من خلال مراجعاته العميقة في هذا الباب.

في قضية الشعر نجد أن معارضي النبي عليه السلام قالوا انه شاعر والقرآن نفى صفة الشاعر عن النص المقدس، هذا يعني أن للعرب نظرة وقتها اتساعية لمفهوم الشعر، أي لو كان يقيدون المفهوم في الوضعية التي وجدت في المعلقات مثلا أو الشعر المعروف ما قبل الإسلام، لما قالوا شاعراً عن الرسول الكريم.

إن الهدف الأساسي من إثارة هذا الموضوع، ليس اقتراح الأمثلة، داخل ما يطرح من نماذج للحشو، فالأمثلة قد تطول وتكثر، بل مقصودي الإشارة إلى أن معالجة موضوع اللغة بهذا الشكل قائمة على أسلوب قديم يحتاج مراجعات.

الإضافة أو التكرار في ذاته قد يكون جمالياً، في بعض الاستخدامات، كما في القرآن الكريم في سورة الرحمن، وهذا يعتمد على السياق اللغوي، ويبقى أن مثل هذه البرامج اجتهادات قد تفيد وقد لا تفيد، وما أعنيه بوجهة عامة، أن تعلم اللغة والنظرة إليها عندنا خاصة بهذا الاسلوب التلفزيوني ما زالت قاصرة وتقليدية، فمن يعيد تأمل تاريخ اللغة العربية يرى أنه حتى في كلاسيكيتها عند النفري وابن عربي مثلا، تجاوزت السياق الذي يتكلم عن بهذا الشكل البسيط.

أخيرا فإن مثل هذا المفاكرات حول اللغة، ضرورية لتحرير العقل، والنجاة من الموات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق