
أشواق وحنين
د. حامد فضل الله \ برلين
قررت عفوياً في يوم سبت صيفي رائع، زيارة مدينة لايبزيج، التي لم ازرها منذ توحيد الدولتين. دخل القطار السريع محطة المدينة بعد ساعتين دون توقف وقد هالني اتساع المحطة التي تم تجديدها من الأساس، جدرانها العالية وقطارات عديدة داخلة وخارجة، وزحام شديد، ومحلات تجارية أنيقة واكشاك الأكل السريع والصحافة المحلية والعالمية. غادرت المحطة، لأبدأ جولتي سيراً على الأقدام. كان الهواء منعشاً ومليئاً بالدفء اللذيذ، الذي بان على وجوه المارة. زرت داخلية الطلاب ومعهد تعليم اللغة الألمانية للأجانب والمكتبة الجامعية الكبيرة وكلية الطب، وتجولت في الحدائق الصغيرة التي تحيط ببعض الشوارع الكبيرة، لأعود مجددا الى وسط المدينة، حيث التقيتُ مصادفة بالأخ علي بصحبة صديق الماني. حضر علي الى لايبزيج بعد عدة سنوات من حضوري، ويعتبر من المخضرمين أيضاً. قدما لي دعوة لتناول فنجان قهوة، قلت لهما، انني كنت في سبيل التوجه الى مقهى (قبو) أورباخ، من أجل تجديد ذكريات الليالي الخوالي. رد هانز، الذي سلم علىًّ من قبل بحيوية وبلهجته السكسونية، بالموافقة الفورية. دخلنا المقهى العتيق، المكان المفضل لشاعر المانيا الأكبر يوهان فولفجانج جوته والذي جاء ذكره في مسرحية فاوست “رائعة جوته”. في ركن قصي بدأنا نتجاذب أطراف الحديث. هانز، ستيني، مربوع القامة مع ميل خفيف للبدانة، وشعر أشقر لا يزال غزيراَ ويغطي خصلات الشيب على جانبي الرأس ويرتدي ملابس أنيقة تتناسب مع سنه. بدأت حديثي مشيرا الى التطور الهائل الذي لحق بالمدينة منذ الوحدة: في زي وسلوك الأفراد والمباني الحديثة والشاهقة والعديدة، المقاهي والمطاعم ودور اللهو المنتشرة في جميع الشوارع الإعلانات الصاخبة، التي تغطي جدران المباني بكثافة. تحدثنا عن ظهور الأحزاب اليمينية الشعبوية، خاصة في شرق المانيا، وربط ظهورها مع قضية اللاجئين والخوف من فقد العمل، ليس كافيا ولا مفسرا لصعود الحركات الفاشية ولقضية رهاب الأجانب وارتفاع معدل معاداة السامية. كان هانز يتحدث بهدوء مع قناعة، بأن الانتفاضة الشعبية قبل انهيار جدار برلين كانت كافية، على إجبار الحزب الحاكم للانفتاح على الجماهير وتوسيع الحريات العامة والشخصية واعادة النظر في السياسة الاقتصادية، بدلا من أن تبتلع المانيا الغربية، المانيا الشرقية بالكامل. وتساءلت أليس هذا وهما، بأن ذاك النظام كان قابلاً للإصلاح بالفعل؟ وردَّ، بأن الافتراض بعدم وجود بدائل للديمقراطية الرأسمالية، قابلة للحياة هو الآخر وهماً، والرأسمالية التي تقوم على تعظيم الربح، ليست هي الحل، اليس هناك القليل ممن يعيشون على حساب الكثيرين، أوليس الديمقراطية هي نفسها مجرد خيال، لا خلاص للبشرية الا بالاِشتراكية والسلام وتضامن الشعوب.، وكانت مداخلات هانز، تأتي احيانا ممزوجة بالحزن وكأنه يحمل على عاتقه عبء سنوات من الخيبة والأمل. ابحرنا في النقاش ليختتمه علي، بأن نزور المقهى الكبير الذي افتتح حديثاً ويقدم برامج موسيقية وندوات ثقافية ومعارض فنية، متنوعة، لجمهوره الغالب من الطبقة الوسطى والطلاب.
دخلنا الدار، الحضور كثيف، الموسيقى صاخبة. لقد أصابتني الدهشة، فالمبنى سميك الجدران، عالي السقف له مداخل عديدة وغرف كبيرة مستطيلة ومستديرة تتداخل في بعضها البعض، ورغم جمالها وتنسيقها الآن، غريبة الشكل كمقهى، حتى علمت بأن المبنى كان في الماضي أحد السجون العاتية لجهاز أمن الدولة الرهيب (شتازي). سبحانه مغير الأحوال، من أقبية التعذيب إلى لقاء الأحبة والأحباب ومن مكان لامتهان كرامة الإنسان إلى مكان لربط أواصر الصداقة والمحبة.
تصدح الموسيقى من كل الغرف، صوت الكابلي ومحمد وردي ممزوجا بصوت جيمس براون ومايكل جاكسون. الحلقة تموج بالراقصين. الثوب بجانب الروك، الجلابية بجانب البنطال، السمراء بجانب الشقراء، ويتوسط الحلقة شاب فارع الطول، مفتول العضلات، شديد السمرة، يربط حول خصره نوبة ضخمة بجانبه درويش بطاقيته وملابسه المزركشة وبقية الجوقة يرتدون القمصان السودانية التقليدية وتتدلى السبح من اعناقهم ويبدأ الذكر:
وهُنَا حَلْقةُ شَيْخٍ يَرْجحِنُّ
يَضْرِبُ النَّوبة ضَرباً فَتَئنُّ وتُرِنُّ
ثُمَّ تَرْفَضُّ هديراً أو تُجنُّ
وحَوَاليْهَا طُبُولٌ صَارِخاتٌ في الغُبارِ
حَوْلَهَا الحَلْقَةُ ماجَتْ في مَدارِ
نَقَزتْ مِلءَ الليَّالي
تَحْتَ راياتٍ طِوالِ
كَسَفينٍ ذي سُوَارِ
في عُبابٍ كالْجِبَالِ
***
وتدانتْ أنفُس القَوْمِ عناقاً واصطِفافا
(رحمة الله عليك يا ود المجذوب).
القلوب مبتهجة والجميع يعمهم فرح إنساني جميل. هل هذا هو ارهاصاً لنبوية هانز؟ نظرتُ في ساعة معصمي، لقد تجاوز الوقت الساعة الواحدة ليلاً. ودعتهما على عجل، للحاق بأخر قطار برلين. تحرك القطار الى الأمام وتحركت ذاكرتي من جديد الى الخلف. ستون عاماً مضت منذ أن وطأة قدمي أول مدينة أوروبية. لايبزيج مدينة الحلم والخيال والنور، البشرة البيضاء والوجوه اللامعة، تعليم اللغة الألمانية واللاتينية، الصدمة الحضارية، معاقرة بنت الحان، الغثيان ودوران السرير ولحظة الضياع والشك القاتل ــ العبقريات، الفتنة الكبرى، مرآة الإسلام، ماركس والماركسية، لينين واللينينية. إن القابض على دينه كالقابض على الجمر. وتتداعى الصور وتتداخل في بعضها وتصافح أذني صوت بارت أستاذ اللغة الالمانية وهو يفتتح الحصة الأولي بقوله “سوف أعصركم عصر (الليمونة) حتى تستوعبوا اللغة الألمانية. واتذكر حضورنا أول احتفال أقامه المعهد للطلاب الأجانب بمناسبة «الكريسماس» عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، بعد ثلاثة أشهر من وصولنا، نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية لبتهوفن وإلى أغاني «كورس بنات المدارس» وجوه الملائكة، وتغريد البلابل، يهتف بلال وهو في قمة النشوة “يا إلهي يا إلهي هذه عصافير الدنيا، فكيف تكون عصافير الجنة”!!