سلايدرسياسة

کأس العنصريّة لنا …!

رابطة الدّم في الجنسيّة العربيّة أتصلح لهذا العصر؟

صبرًا آل ياسر!

لا تشتري العبد إلا والعصا معه * إنّ العبيد لأنجاس مناكيد

د. محمد بدوي مصطفى

mohamed@badawi.de

توطئة

أبيات نقرأها في مدارسنا ونمرّ عليها مرور الكرام ولا نتجرأ أن نتساءل أبدًا: لماذا يستعلي أحدنا ببشرته على آخر؟ من جهة أخرى نحن تعلمنا في كتب السيرة عن آل ياسر وما ذاقوه وتجرعوه من عذابات، نعلم أن الصخور على صدورهم وضعت، جُلدوا، أُصلوا جهنم الدنيا وسقر، سُمُّوا عبيدا وأطلقوا على الفرد منهم صفة “العبد الأسود”، ولم يتبادر إلى ذهن أحد منّا لمِ عُوملوا هذه المعاملة، ألإنّ سحنتهم اختلفت عن سحنة الآخرين؟! أهو اللون فقط الذي يجعل أحدهم يستعبد الآخر؟ ماذا لو كان العكس؟ أن يستعبد الأسود أبيض اللّون؟ هل تتقبل عقولنا المبرمجة ذلك؟

تمثل قصّة آل ياسر القابعة في اللاوعي الجمعيّ للأمة الإسلاميّة كإحدى الأمثلة المريرة التي لن تنسى وتجسد في تاريخنا بالتأكيد وصمة في وجه البشريّة جمعا. وبما أننا يا سادتي نتخذ الدين ثوبا ولحافا في حياتنا اليوميّة وكقاعدة ونبراس، تتبادر إلى ذهني المرهق حينئذ مئات التساؤلات، كالآتية: هل هذه كل القصّة، بأي حق يستعبدون وقبل ذلك من أين أتوا أو قل أُتِيَ بهم، لماذا لم يلتحف أحد إذذاك عباءة المروءة لينقذهم من هول التعذيب، وماذا حدث بعد أن اعتنقوا الإسلام، هل بقوا عبيدا للآخرين أم أنهم تحرروا أو قل حُرِّرُوا، لكن كيف؟؟؟ وتطوف بي ساعتئذ مقولات تاريخيّة أحسبها جديرة بالاهتمام، مثلا مقولة وردت في كتاب (علاقات الرّق في المجتمع السوداني، للأستاذ محمد إبراهيم نقد) عن عمر بن الخطاب عندما قال: (أيما حرّ تزوج أمة، فقد استرق نصفه) وأسترسل سائلا: كيف يعقل؟ يستشهد الأستاذ إبراهيم نقد في نفس السياق ومن جهة أخرى بمقولة للباحث برتراند رسل: “ما كان يسمى بالديموقراطية في أثينا – لم يمسّ مؤسسة الرّق، مما سمح للأغنياء الاستمتاع بثرواتهم دون قهر المواطنين الأحرار)؛ مقولة خطيرة لها أبعاد شتى وتعكس من الأمور ما ينبغي الوقوف إليها!

من هنا أسأل، هل ينبغي علينا أن نكتب التاريخ من منظور آخر وبآليات أخرى من جديد؟ كتبت في غير مقام مقالا بعنوان: “هل تاريخنا مزوّر”؟ والتساؤل ها هنا: من كتبه ومتى وكيف ولماذا؟ لذا فإن كل فترة تاريخيّة تبعث بكل مراحلها وتداعياتها وملابساتها الشكّ ذلك منذ الجاهليّة، صدر الإسلام، الدولة الأمويّة والعباسيّة مرورا بفترة الخروج من الأندلس إلى فترة النهضة في القرن التاسع عشر وعهد الاستعمار في القرن العشرين إلى أن نصل إلى تاريخنا المعاصر الذي كُتب أغلبه على أيدي مؤرخين من تابعيّة المستعمرين، السلاطين والرؤساء؛ أجل، كُتب كما كتبت قصاصات عهد الاستعمار والاستعباد التي ارتكزت على التبشير الوهميّ وحتى في فتاوانا البغيضة في صالات القصور تحت تأثير “البخور” (مجازا).    

لذا أقول هل لدينا الشجاعة التامّة أن نتصدى لهذه القضية لنفحص وننقح تاريخنا الماضي والمعاصر ذلك وبكل الدول العربيّة دون استثناء؟ إنّ الحديث في هذا الأمر قد يطول وأحسب أنّ الأهميّة القصوى تحتم علينا ذلك من أجل بناء وخلق أمّة متسامحة مع نفسها أولا ومن ثمّة مع الآخرين، ذلك له أهميّة قصوى تسير باتجاه هضم جراحات الماضي التي لن تنطوي صفحاتها أبدا. ألم يئن الأوان أن نقول: “ليس الفتى من يقول كان أبي ولكن الفتى من يقول هانذا”؟

تكويننا العكسي يفضح دواخلنا المتمزقة

غريبة هذه المستديرة وغرباء نحن بصحنها، أين البصيرة؟! نرفل كالحرباء في أثواب العفّة المصطنعة وندرك ونعلم كل العلم أننا ليس ألا بعض من فتات، بعض من حبّات السّفاف؛ “نَتَعَنصرُ” على غيرنا وعلى أنفسنا أولّها وآخرها ومن ثمّة على الناس أشكالهم صافيها وغابرها؛ وحتى وإن كنَّا مهاجرين في أرض الله وملك أيادي الغُربة وفي الغرب غرباء، في بُعدٍ عن بلادنا الغرّاء، سالكين سبلنا في أزقة الغفراء، نتهامز تارة ونتغامز أخرى بجلساتنا النكراء، بابتسامة صفراء، تفصحها ملامحنا العوراء، علنا في صحائفنا الغرّاء، “حديث النخاسة” عناوين برسائلنا كما الطغراء، أرانا هُمزة لمُزة وإذا مروا بنا ومررنا بهم غُمَزة، حقيقة يا سادتي نحن، جنس البشر، جنس عجيب، نبغض الغريب وحتى القريب، جنسنا القصيب لا يعرف في هذي الأمور، لا رقيب ولا حسيب، سلالة لا يعجبها العجب ولا التسامح في رجب! فلنقها ملئ شدق، نحن متصافقون، وباستعلائنا مترفعون ومتعاظمون ومن ثمّة نسدلها عيون، عن كل إرث سمج أو حتى في الديون، من ثمّة للآخرين قائلون: هذا داكن السحنة وهذا ملوّن وذاك شركسيّ وهذا كردي الأصل وهذا غرباوي وذاك يزيديّ الدين وهذا عربي وهذا نوبيّ ونوباويّ الموطن، هذا أمازيغيّ شلحيّ، وهذا سُنيّ، شيعيّ أو علويّ، هذا أسود وذاك أبيض، هذا كافر وذاك سافر أو ربما دينه قاصر، وتلك الحسناء انشلخ عودها تحت نُخَيلة تجود برطبها كما العذراء، سمراء عفراء مسدول عوارضها، برغم خلقها وحسنها فهي سافر، لا تصلح إلا للسمر ولا تُنكح  بشرعنا لبغل أو بشر، لأن أصلها وفصلها من سلالة الغجر، قبائل تُسافر في السّحر، ألسنا يا سادتي إلا بقر؟

القائمة تطول يا سادتي إذ ينوء بملئها ذوي القلم أولي العلم، وقد تمتلئ عن بكرة أبيها وفي آخر المطاف وبعد التحام وصدام واختلاف، قائلين في كل لام وقاف، أيهُمُّنا بربكم هذا الاسفاف؟ لا نحيد عن الوتيرة وحتى وإن تكدست نوايانا العصيرة في لظاها بالظهيرة لتحجب أنفاسنا وبصائرها القصيرة؟ ماذا لو كل فرد منّا لنفسه نظر لنرى كيف يُعلِّمُنا علم النفس عن خُسرٍ قَذِر، في حال تكويننا العكسي، أوفي أنفسنا أفلا نُبصِر أو “نبتصر”؟ نتملق ونظهر ما لا نبدي، تماما كحال الإخوان والكيزان، باطننا لا يعكس ظاهرنا وظاهرنا يبتعد بعد السماء عن الأرض بما تجوش به أعماقنا، التي لا يعلمها إلا بارئنا، جوفنا يستعر ويلتهب، مضرم صوب المال والبنين من العبيد، يحدّق في زينة الحياة الدنيا والجواري وعيشها الرغيد.  تجدنا في كل لمحة ونفس “نتعنصر”، “نتخنصر” وبالسبابة “نتبنصر” على البشر، وحتى على الولدان من أهل الزُبر، وكل يوم حدّة العنصرية والعداوة فينا تستعر وتتعدّى كل الموازين، أتَستَقِرّ أم تَستَمِرّ؟ في الغالب يحسب بعضنها، أنه في السُّلّم الاجتماعي أعلى مقاما عن غيرنا. فمنَّا من يقول: أنا ابن الإمارة وابن الجسارة وأخو العمارة وأبو الهول، عملاق الحجارة، أنا كبيركم الذي علمكم السحر والحبر، لتنالوا ما تنشدون من التبر، أنا الأجمل والأغنى من بين العالمين ولم يخلق الله نورا مثل نوري، فهلموا لتأكلوا من جنّات عنبي وزبوري! وأنت يا أيها الوحش، بعقل الثور والجحش، ما أنت إلا عبد دنيء، عامل وضيع، أجنبيّ بضيع، صلصالتي ليس إلا، فأنا الصانع والصّنّيع مذ أن كنت بخس البضاعة أو طفلا رضيع!

بعد كل هذا الملق، أرنو لرب الفلق، لأتمنى وأناجي كل مخلوق وحَلق، أنشد من كل قلبي يا سادتي وأنا أولكم أن يقف كل منّا في هذه السانحة ويستذكر من بجانبه من نفر، وأن يسترجع البصر، ويستذكر ما فعله فيهم بنار سقر وما جال بذهنه من عفر أو عَوَر وما كان يمليه على أهله بليال وسمر في الميادين وفي بيداء القفر، فهلا لنا أن ندّكر؟

يجب أن نعلمها للبشر: “أنا ابن هذه الأرض”!

بلادنا العربيّة تكتظ بالناس من كل القبائل ومنّا القلائل من يهاجر ليعيش مع أسرته خارج البلاد والعماد، تولد لنا الأولاد والبنات وينشؤون في بيئة مغايرة، يتعلمون وَيُعلَّمون، حتى في الوطن العربي، وحتى ولو هم ولدوا بأرض المهجر، يظلّون بعد مُضيّ العقود الطوال أجانبا، غرباء، دخلاء لا حول لهم ولا قوة. يتغير الأمر لدى أبنائنا الذين ولدوا هنا بأوروبا أو في أمريكا وبقاع الأرض المختلفة، فهم يرفلون في حيواتهم بغيرة وحبّ على الوطن الجديد حاملين الوطن الأم في أنفسهم، فهم بنّاؤو الجسور بين الأمم ومهندسو التسامح والإخاء بالنهار وبالسحور.   

يا ليت أهلنا في بلادنا العربيّة يزيلوا من عنادهم تجاه الآخر، في كل بلد وموطن به، لا أصطفى أحدا، فكلنا في الهواء سواء. وأقول مهما تكررت تساؤلات الآخرين تجاه الوافدين بشأن الموطن الأم، أن يُعلِّموا النشأ أن هذا هو موطنهم وبلدهم، ولدوا فيه ونشؤا بجنباته، دخلوا المدارس به وعمل آباؤهم وأمهاتهم بمصالحه. لا بد أن نوقف من الآن فصاعدا السؤال المتواتر والمتردد عندما نستقر بِمقَام وببلدٍ حسبناه المُقام: أين بلدك الأصلي تجاه من ولد أبواه بالسودان، المغرب، الخليج، الأردن، تونس، الخ. يجب على الأثيوبي الذي ولد بعمان أن يقول: أنا عمانيّ، وعلى السودانيّ الذي ولد بالمغرب أنا مغربيّ وعلى السعوديّ الذي ولد بمصر أنا مصريّ، وعلى المغربيّ الذي ولد بالجزائر أنا جزائريّ وحتى الصينيّ والبنغاليّ والإندونيسي، فكلنا بشر، وأن تكون تلك هي العادة لا الطفرة كما فعلت الأمم من قبلنا.

شاهدوا الفريق الفرنسيّ لكرة القدم، نجده جلّه من أصول أفريقيّة وشاهدوا الفريق الألماني، فنحن نجد الأصل العربيّ، التركيّ، الأفريقيّ، الأمريكانيّ، الروسيّ، البولنديّ، الإسرائيليّ وهلمجر. بيد أننا لا نجد عندنا أغلب الظن إلا العدائين وحفنة قليلة من لاعبيّ كرة القدم، يجنسون حتى ولو لم يُولدوا بالبلد، فقط للمصلحة العامة، ولماذا لا تتسع رقعة هذه المصلحة الوطنيّة لكل من ولد بالبلد، أليس العمل بالمدارس والمصالح الحكوميّة أيضا عملا ينبغي أن يجازى بالخير والبركة؟!

تجربة شخصية

ذات يوم اتصلت عليّ السيّدة المشرفة على روضة الأطفال أن ابني قد دفعته زميلة بالروضة من “المرجيحة” وحدث إثر ذلك له كسر في قدمه اليسرى فهرولت إلى الروضة لا ألوي على شيء إلا وأن أحمله إلى المستشفى. دخلنا غرفة الانتظار بالمشفى وبقينا إلى أن أتى الطبيب: أشقر اللون، ربعة القامة، ذو قسمات آريّة بيّنة، فسارع يسأل ابني: من أيّ بلد أنت؟ فأجاب طارق: من كونستانس (المدينة التي نعيش بها). أعاد عليه السؤال ثلاث مرّات وكانت الإجابة بنفس النسق: أنا من كونستانس.

طارق ولد بالمدينة ودخل الروضة بها ودرس بمدارسها وله سحنة شرقيّة مائلة إلى السمرة، رغم ذلك لم يتردد أبدا في أن يجيب الطبيب أن موطنه بكل بساطة هو ألمانيا. فماذا إذا سئل أحد أبناء العمال ببلاد العرب الواسعة عن موطنه الأصلي حتى ولو أنه لم يعرف لنفسه بلدا غير العربيّ الذي وُلد به، أتراه قد يجيب بأنه سعوديّ، خليجيّ، أو أردنيّ، الخ؟ وماذا سيكون رد فعل الطبيب المعالج إن كانت أصوله من هذا البلد، في حالة النفي أو غيره؟ كلها أسئلة تجول بخاطري وربما لا ينتبه إليها إلا بعضكم وأزعم أنّ ليس للمواطن العربيّ فيها نفع يُرجى أو غرض يُوعى.

من جهة أخرى نجد أهلنا العرب بأوروبا يسارعون لدفع طلب التقديم للجنسية الألمانية أو غيرها لما تجني على الإنسان من صلاحيات عالميّة. فالفرد منّا يمكنه بالجواز الأوروبيّ السفر إلى أي بلد عربيّ أو غيره، ولا يحتاج لتأشيرة، لكن إن رجع منَّا الفرد إلى بلده ربما يقول: كيف يمكن لهذ اللاجئ الباكستاني مثلا أن يستحوذ على الجنسيّة العربية (لأي بلد كان). أليس الأمر هكذا يا سادتي؟

حقوق الإنسان العالميّة تضمن لكل فرد، حسب القانون الذي نجده مطبقا في دول العالم المتقدم، أن يتمكن دون فرز على الحصول على جنسية البلد بالمولد أو بالإقامة (بعد ٨ سنوات مثلا في ألمانيا)، فهل الأمر كذلك في بلادنا؟

القضية التي تؤرقني، أن ابن الأسرة المغربيّة الذي ولد بدولة قطر مثلا ولا يعرف له موطنا غيرها يظل مغربيّا إلى أبد الآبدين وهكذا الحال عن ابن الإثيوبيّ أو ابن السوري الذي ولد بالسودان، فقد يظل أغلب الظن بجنسيته إلى يوم يبعثون. والحال مختلف في دول العالم المتقدم وحدث ولا حرج! نتحدث هاهنا في سياق “حق الإقليم” أو “حق الميلاد” وليس عن حق الدّم كما كانت الحال في قانون الجنسيّة الألمانية أو الفرنسيّة من قبل. لماذا نطبّق إلى هذه اللحظة حق الدم في قوانين الجنسيّة بالدول العربيّة والاستثناء يظل الطفرة لا العادة.

الاستعمار وتعويض الشعوب المستعبدة

بعد الحرب العالميّة الثانية استطاعت دولة إسرائيل أن ترغم دولة ألمانيا الاتحاديّة بدفع ضريبة المحرقة. ربما تعلمون يا سادتي أن النازية قضت في غضون الحرب العالمية الثانية على أكثر من ستة مليون يهودي وغيرهم بمعسكراتها. وبنفس القدر هل تبادر لذهن سياسيّ واحد بالوطن العربي أن يفتح ملف العبوديّة، الاستعمار، الحروب، الدمار الشامل والاسترقاق، إلخ بالوطن العربي تجاه الشعوب الأخرى؟

إنّ تاريخ الرق في كل بلدان الوطن العربي تاريخ سمج ووصمة في وجهنا. ماذا عن استعباد واستعمار جزيرة زنزبار مثلا؟ ما هي الحقوق التي ينعم بها ذوو البشرة السمراء في بعض الدول وحتى ولو كانوا بها مواطنين بالميلاد “والدم”؟ هل هناك عبيد إلى الآن وهل طرحت قضية الحريّة يوما ما، لا سيما في الحقوق العامة لهذه الفئة مثلا؟

من جهة أخرى نجد كل الدول التي مارست الاستعمار وسلبت خيرات البلدان الأفريقيّة والعربيّة لم تحرك ساكن إلى الآن. لماذا؟ فلنأخذ مثلا أمريكا: هل جاءت كلمة اعتذار في حق الملايين التي رميت جثثا في البحار واستعبدت وسلبت حرياتها طوال أكثر من أربعة قرون من القارّة الإفريقيّة وغيرها؟ تقول ابنتي سلمى أن أوباما قالها ذات يوم، فماذا عن ترامب وغيره من الرؤساء الذين حكموا هذا البلد وماذا عن بلدان أوربا أغلبها، مثلا استعمار بلجيكا للكنغو أو استعمار فرنسا للجزائر وحرب المليون ونصف شهيد؟

لذلك نجد التراكمات قد فاضت بل طفحت وبلغ الكيل والسيل بها الزبى ذلك على مدى أربعمائة سنة ونشاهد حاليا بأم أعيننا ونتعجب، لماذا ينتفض الشعب الأمريكي في وجه الدولة عموما، بالأخص فئة الأصول الأفريقية؟ هل يتعلق الأمر فقط بمقتل الشاب جورج فلويد؟ أم لأن المسألة أعمق من ذلك بمراحل، نعم، إنها تراكمات العهود الغابرة يا سادتي، وأنا أحيي رؤساء ألمانيا المعاصرين، منهم على سبيل المثال فيلي براند الذي انحى إجلالا لصرح الشهداء في وارسو طالبا الغفران لكل ما جناه الشعب البولندي من جراء حكم النازية.

لابد لجامعة الدول اللاعربية أن تطلق العنان لمصالحة وطنية وأن تضع النقاط على الحروف في كل بلدان الوطن العربي وأن تتقصى أمر العبوديّة والرّق والتعامل بهما كأنظمة اجتماعيّة لا تزال باقية، وأن تصرح علناً بأنها مخزية ووصمة في وجه الإنسانيّة.

نجدنا نقرأ في كتب السيرة، كما سلف ذكره في أول المقال، عن استعباد آل ياسر وغيرهم من سود شبة الجزيرة ولا نسأل أنفسنا، كيف سولت للمسلمين والعرب عموما أنفسهم استعباد هؤلاء إذذاك، لماذا، وكيف حدث ذلك؟ تصمت كتب التاريخ عن تلك العثرات صمت الجثث! على صعيد آخر تذكر بعض المخطوطات أن بعض الشعوب التي أتت إلى الحج استعبدت فقط لأن بشرتها سوداء. فهل توجد أبحاث تؤرخ لهذه الأحداث التاريخيّة والكوارث، تنقب عن صحتها، تؤكدها أو تدحضها؟ أليس علينا أن نكتب التاريخ من جديد وألا نمرّ عليه مرور الكرام. تعذيب آل ياسر يعتبر مثالا متفردا، نقرأه وكأنه آية في الشهامة والجلد فقط وينتهي التأمل، ولكن الأبعاد السوسيولوجية لهذه المثال التاريخيّ أعمق مما نتصور. ماذا عن الفرق السياسية الدينية في كل دول الوطن العربي التي استحلت استعباد الناس باسم الدين؟ نعم، في كل بلد! حديث طويل وعميق ولابد أن نشرع في دراسته!

داعش واحياء العبوديّة العلنيّة في الدول العربية

في العقدين السابقين حدثت أمور هامة ومصيرية انطبعت ذاكرتنا وباللاوعي الجمعي، الإسلامي والعربي على حد سواء، فلا بد علينا من التطرق إليها. إنها قضية الحكم الداعشيّ الذي بعث قضية الرّق والاسترقاق في ذاكرة النّاس والدين من جديد. استحلت هذه الوحوش سبايا من بنات الأحرار لأنهنّ يؤمنَّ بديانة أخرى غير التي يؤمنون بها. إنّ تلك المآسي التي حدثت لكثير من النسوة وأذكر على سبيل المثال لا الحصر اليزيديات، لا ولن يصمت التاريخ عنها أبدا. من منّا جاهد من أجل تحرير هؤلاء أو غيرهنّ وكلنا نعلم أن حملات الاستنفار من قبل في أفغانستان قد وجدت صدى عميقا بين شباب العروبة والمسلمين! لعمري أهل داعش لا يختلفون في ملامحهم وسماتهم عن النازيين، يبغضون السلم، يعشقون التعذيب، ينبذون التآخي ويمتهنون القتل والسرقة والاغتصاب على مسمع ومرأى من كل العالم. ربما اختفت ثورتهم المزعومة التي نادوا بها ودولتهم التي ماتوا من أجلها شيئا ما، لكن الموروث الذي خلفته في ذاكرة الأوطان لن تمحوه السنون ولن يتبخر في آفاق النسيان. تظل هذه الأحداث قضايا عالقة في الأفق ولا أحد يحرك ساكن، لا الجامعة ولا غيرها من رؤساء بلادنا الذين توسدوا عروشهم الوثيرة ورفعوا السبابة في وجه الكل قائلين طز!

العنصرية تنين له رؤوس عدّة

إن العنصرية القائمة والقابعة على أنفاس مجتمعاتنا والتي ورثناها من آبائنا وأمهاتنا، شربناها ولعقناها بحليب الرضيع ستبقى ما بقينا إن لم نغير ما بدواخلنا وإن لم نحرّك ساكنا. فهي مرض عضال تنتشر بين البشر وتعمي البصائر، وتشعل في دخيلة بعضنا حالة على شاكلة الضمير المتذبذب بعدم اليقين وشيء مثل الحيرة: العقل يقول للإنسان هذه الأفعال غير إنسانية، لكن العرف يوسوس له مناجيا رانيا: هكذا عاش أجدانا وما عرفنا أعرافا غيرها. نحسّ بدواخلنا بشعور غريب، شيء مثل عدم الرّاحة والاستعلاء والعنجهيّة، مثلا عندما نكون بين مواطنين من أصول أجنبية ورغم أنهم ولدوا معنا وتربوا بديارنا، نجد الأهل يصرخون في وجوه أبنائهم: لا تعاشر هذا الأجنبي، لا تخالطهم فهم أهل سوء، والمظهر هو الفيصل والعبرة بالعمل. وحتى إن كانوا من أهل البلد بسحنة مغايرة أو لكنة لسان غير السائدة في الحضر أو تلك التي عهدناها في الصغر والتي حتمها علينا الإعلام، تجدنا نتوخى الحذر، فليس لدينا دراية بكيفية التصرف معهم على نحو غير عنصري، لم نتعلم ذلك بالمدارس ولا بالبيوت، وهل توجد مناهج بيداغوجيّة تعلمنا التسامح والرضا والمساواة واحترام الآخر؛ للأسف لم نجد الحلول الناجعة إلى هذا الحين أن نصنع أمّة متساوية عادلة حقوقيّة وحقانيّة. أنا لا أناشد بأن نخلق المدينة الفاضلة “اليوتوبيا”، لكنني أتعجب من أننا نرفع شعارات الدين في كل حين ومكان مفرغة خاوية من كل المضامين، وننتكس في كل لمحة ونفس وكأن الدين أبدا لم يكن! لماذا نتجاهل الآخر وبكل بساطة، نسفهه، نحقره ونؤمن أننا أنسب منه بما نستحق في كل الحقوق.  وإذا سألنا أنفسنا عن هذا الفعل، فهل نرسل نحن عبر أعيننا وتصرفاتنا في كل الأحيان رسائل ضمنية تجاه الآخر، دون كلام، في الطرقات وفي المحال التجاريّة على سبيل المثال، ملقنين إيّاه الدّرس، أننا نحن الأسياد؟!

لا بد لنا أن نصحوا من سباتنا العميق ولا بد للقيد أن ينكسر وللحواجز أن تنحسر وللمواقف أن تتجاسر وللرجال والنساء أن يعلن الآتي: انتهى عهد العبودية، انتهى زمن استعباد واستعمار الناس وحان الأوان أن نتضافر لنصنع أمّة سويّة تشارك بعملها ودأبها وسماحتها وحقانيتها في المنظومة العالمية. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق